دورة
اعلان ماس فيتالس

عروة الصادق يكتب.. سودان الظلال العميقة – “من جمهورية الرصاص العقيمة إلى جمهورية الروح”

 

● زخم القتال النتن وأنفاس الواقع الحرب المعونة في قيح الكراهية وصديد المأساة، في قلب هذه الخرائط المنسية من شرق البلاد إلى غربها وحدودها مع دول الجوار وعمقها الجغرافي، حيث لا تمشي الجغرافيا على قدمين، هناك وطن يتنفس من شقوق الجدران، ويقتات من أنين المعدمين والأطفال، ويصرخ داخل صدر كل سوداني باسمٍ لا ينام: السودان.

كل ذلك وغيره متراكم في هذا الوطن الذي تحوّل من دولة إلى ذاكرة متقطعة، نعيش اليوم مرحلة “تفكك الحُكم وبقاء الشعب”، مرحلة لا تُقاس بالخرائط ولا تُفهم من نشرات الأخبار، بل تُقرأ من عيون الأمهات، من رسائل النزوح، من لون القمح في معسكرات الجوع.

الحرب السودانية ليست مجرد اشتباك عسكري، بل هي ما نسميه اليوم “حرب الشرعية المُنهارة”، حيث تتواجه حكومتان، لا لفرض السيادة بل لتثبيت العدم، حكومة الجيش التي تحرس الأطلال والظلام، وحكومة الدعم السريع التي تتربع على الآلام والقصف والركام، كلاهما سيجدان أنهما يقودان “جمهورية الفوضى المنظمة”، حيث ينضج الانهيار بهدوء، وتُطبخ المأساة على نار هادئة.

في ظل هذه المعادلة المعكوسة، لم يعد المواطن مجرد ضحية، بل أصبح “المؤسسة الوحيدة التي لم تنهار”، في طوابير الخبز، في محطات النزوح، في المشافي، في المنافي، في حناجر الشعراء، نولد من جديد كمجتمع متمرد على السلطة، لا بالمظاهرات، بل بالنجاة اليومية من الانقراض؛ فقد أخرجونا باقتدار من نسف أيديولوجية الحزب المحلول الواهمة، وإنهاء حقبة سياساته الخاطئة، وإبادة دكتاتوريته الفاشلة، ليسجنوننا في نفق المطالبات اليومية بالكفاف.

لقد اخترع الشعب السوداني شكلاً جديداً من الوطنية، نسميه “الوطنية المقاومة للصمت”، حيث لا يحتاج المواطن إلى برلمان كي يشارك، بل إلى فمٍ لا يُكمم، وإلى ذاكرة لا تُباع، فكل من قال أريد العيش أو أوقفوا الحرب يكمم فاه بقانون التآمر على الدولة والتعاون، وكل من يختلف وجهه وشكله ولكنته عن المطلوب وفق معايير المنطقة (X) يعاقب بموجب قانون عرفية عرفت بقوانين الوجود الغريبة.

لكن الصراع ليس فقط في الميدان، بل في الوعي، حيث تسكن “ميليشيات الخطاب”، وجماعات الانحراف السلوكي؛ والتطرف الفكري، وتُزرع قنابل المفاهيم العنيفة والدموية، وحيث تتحول مفردات مثل “السيادة” و”الكرامة” إلى أدوات تشريح سياسي، تمزّق الجسد الوطني قبل أن تداويه؛ وتسفه بالمقابل أي حديث عن “السيادة الإنسانية” وإعلاء كرامة الإنسان فوق كل كرامة..

إننا نعيش اليوم في ما يمكن تسميته بـ “جمهورية الرصاص الرمزي”، حيث لا يُطلق الرصاص فقط من البنادق، بل من الكلمات، من الشائعات، من الخطب الحاقدة، من الصمت المتواطئ، من نظارت الاستعداء والاستعلاء والكراهية والتحقير في المعابر و”الارتكازات” الأمنية سيئة الصين.

لكن وسط كل هذا، تلوح في الأفق فرصة نادرة، فرصة لا تصنعها الاتفاقيات ولا تُفرض من فوق، بل تنبت من تراب الحقيقة، من وحدة الجوع، من وشائج الألم المشترك، ومن اتساع المقابر، ومن صمت الخرطوم، ومن بكاء نيالا، ومن مقاومة الأبيض ومن رماد سنكات وجبيت وبورتسودان.

السودان لا يحتاج إلى “مجلس وزراء” جديد، بل إلى مجلس ضمير وطني أعلى، إلى “ميثاق الخلاص الوجداني”، إلى مشروع دولة لا تُبنى بالحجر بل بالبشر، دولة لا تقرأ نفسها بالحدود بل بالحضور، لا تُدار بالجنرالات بل بالأمل.

نعم!!! نحن اليوم على تخوم التحوّل من “جمهورية الرصاص” إلى “جمهورية الروح”، من كيان سياسي مهزوم إلى كيان وجداني عميق، حيث يكون الوطن هو السؤال الأول والإجابة الأخيرة، هو الألم المشترك والفرصة الأخيرة.

السودان لا ينقذه الجيش ولا الدعم السريع، بل ينقذه أطفاله الذين لم يتعلموا الحقد بعد، ونساؤه اللواتي يربّين الخير في مقابر الشر، وينقذه العائدون من المنافي حاملين ذاكرة لم تُبع ووفاء لثورة لم تخب نيرانها ولن تخيب رجاءً لأبنائها وبناتها.

● ولذلك، فلنكتب على جدران الوقت:

– “إذا سقطت الدولة، فلنَقم أمة”.

– وإذا انكسرت الخريطة، فلنرسم إنساناً.

– وإذا خذلتنا السياسة، فلنبتكر “أخلاقاً وطنية بديلة”، فيها العدل ليس سلطة، بل وعد.

– وفيها الوطن ليس علماً، بل ضوءاً.

● ختاما: هذا هو السودان القادم، لا الذي يُرسم في مكاتب المخابرات الصديقة أو الشقيقة أو تلك الغريبة والغربية، بل الذي يُولد من حطام البيوت، ومن حفنة دمع، ومن كلمة: سنعود .. حتما نعود … للروضة الغناء .. للكوخ الموسح بالورد.

 

Email 📧: orwaalsadig@gmail.com

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.