تحركات الكهنة والانتهازيين في زمن الاستبضاع
بقلم : عروة الصادق
ونحن نشهد أثخن جراحات أمتنا ونشاهد أقسى لحظات النزيف الوطني، لا تختبر المواقف فقط، بل تُعرّى النوايا؛ وفي اللحظات التي تتهاوى فيها المدن، وتحترق فيها المؤسسات والمرافق، ويتشظى الوطن بين بنادق المتحاربين، ينبري البعض ممن يُفترض أنهم أبناء هذا التراب، لا لترميم الشروخ، بل لبيع الفُتات، واللهث خلف أغيار زائلة.
اليوم نرى تحركات الكهنة من المفكرين والقادة السياسيين، وانتهازيي اللحظة، الذيتن يسيل لعابهم، وتتواتر ألعابهم، من الذين لا يرون في الحرب مأساة وطنية، بل فرصة !!! فرصة لامتطاء الموجة، للقفز من تحالف إلى آخر، للصعود على أكتاف دماء الشهداء، ومن ثم الجلوس على موائد المفاوضات والصفقات، كأنما لا شيء يحدث سوى إعادة توزيع الغنائم، ومنهم من سماها حديثا برقصة التانقو التي يتمنع الطرف الرئيس من رقصها لأنه اعتاد على الانفراد والعناد والعزف النشاز، ومن هم من تواطأ مع القبيلة ولكنه تجرد من أعرافها وتمتع بروح قطاع الطريق.
✦ استبضاع الحلول والمناصب: كيف نُقتل مرتين؟
الاستبضاع المعني هو كما في التجارة ولا نقصد ذلك المعنى الجاهلي وهؤلاء هم إليه أقرب، وهو أخذ البضاعة لبيعها باسم الغير، لكن عند هؤلاء، البضاعة هي دماء أهلهم، وجراح مدنهم، ومصير وطنهم.
هؤلاء لا يملكون مشروعاً سياسياً ولا رؤية وطنية، بل عقلية السوق:
متى أشتري الموقف؟
متى أبيعه؟
متى أكتب؟
متى انطق؟
متى أصمت، وما الثمن؟
أي تحالف أركب؟
وفي أي المحطات أذهب، إلى الذهب أم إلى الرهب؟!
متى أُعلن عدائي ومتى أتصالح؟
من يقف مع الجيش بالأمس، يسارع اليوم للهجوم عليه لأنه لم ينل مبتغاه، ومن كان يصفّق للثورة، ينقلب غداً ليصفها بالفوضى حين يعجز عن إحكام قبضته عليها؛ ببساطة هؤلاء يتحركون لا بدافع إيمان أو قناعة، بل بدافع اللحظة: حيث تكمن المصلحة، هناك يقيمون.
✦ التدابر السياسي والقفز على جرف المصالح
الساحة السياسية السودانية باتت مسرحاً لتبديل المواقف بوتيرة أسرع من تبديل الأحذية، فلا ثبات على تحالف، ولا التزام بخط، ولا احترام لتاريخ أو ذاكرة.
هذا يذكّرنا تماماً بما كان يحدث في عهد الحزب المحلول، حزب المؤتمر الوطني، حيث كان البيع والشراء يتم لا على أساس خدمة الناس، بل على أساس الصفقات مع الخارج، والرشى الإقليمية، ومشاريع استغلال السودان كورقة في اللعبة الدولية، واليوم عندما نرى هذه التحركات المشبوهة تعود، ندرك أن ما تغيّر ليس سوى الوجوه، أما الممارسة فهي هي:
اتفاقيات خلف الكواليس.
مناورات بين المخابرات الإقليمية والدولية.
أفراد يقدمون أنفسهم كـ “مخالب قط” لأجندة خارجية، يخترقون بها الصف الوطني، ويمزقون ما تبقى من شرعية أو مشروع.
✦ لماذا هذا لن يخدم السلام ولا الوطن؟
كل من يظن أن استبضاع الحلول هو طريق للسلام، مخطئ.
إن السلام لا يُشترى في السوق، ولا يُهدى عبر التحالفات المؤقتة، ولا يُفرض عبر ابتزاز الداخل والخارج.
إن السلام الحقيقي ينبع من الداخل، من إرادة وطنية صافية، من مشروع جامع عابر للأشخاص، لا يقوم على إعادة تدوير الانتهازيين.
أما ما نراه اليوم، فهو وصفة جاهزة لإعادة إنتاج المأساة:
تسليم مصير الوطن لنفس العقول التي دمرت التجربة الديمقراطية.
إعطاء السلطة لمن باع ويبيع المواقف.
ترك الساحة مفتوحة للأجندات الخارجية تعبث بها كما تشاء.
✦ ماذا العمل؟
إن اللحظة ليست لحظة تردد ولا مجاملة.
الواجب الآن هو:
فضح كل الانتهازيين الذين يتحركون بواجهات حزبية أو سياسية فارغة.
إعادة الاعتبار للمؤسسات القومية، وإغلاق الباب أمام الترتيبات الفردية والعنصرية والجهوية والمبادرات المشبوهة.
التركيز على مشروع قومي حقيقي، لا علاقة له بالصفقات، بل له علاقة باستعادة الدولة وحماية الناس.
بناء تحالف صلب من القوى الوطنية النظيفة، يرفض المساومة على دماء السودانيين.
✦ ختامًا: لا للمخالب، نعم للسلام الحقيقي
إن أخطر ما نواجهه اليوم ليس فقط الحرب، بل هؤلاء الذين يحاولون استغلال الحرب لصالحهم، الذين يبيعون ويشترون المواقف، الذين يقدمون أنفسهم مخالب قط لأجندات خارجية.
وجميع هؤلاء يجب أن يسمعوا بوضوح:
لن تمروا.
لن نسمح أن يتحوّل الوطن إلى سوق، ولا الدماء إلى سلعة، ولا الأحزاب إلى أوراق لعب.
إن السودان أكبر منكم جميعا، وأكبر من طموحاتكم الصغيرة، وأكبر من نزواتكم التافهة، وأكبر من حساباتكم الضيقة.
وإن السلام، حين يأتي، لن يُفرض من فوق، بل سيُنتزع من تحت، من إرادة شعب لا يُباع ولا يُشترى، هتف ونادي بالحرية والسلام والعدالة.
orwaalsadig@gmail.com
مقال أسبوعي للغد السوداني