اعلان ماس فيتالس

لهيب الحرب وأفق الخلاص – هل يُعيد السودان هندسة سلامه الضائع؟ بقلم: عروة الصادق

● في بلدٍ يُلملم بقاياه من تحت الرماد، وضحاياه عظامًأ ورفاة، وتغسل دماءُ شهدائه جدران المستشفيات المهجورة، والمدن المكسورة، يُطل السودان من قلب محنته كأكبر سؤال مفتوح في الجغرافيا السياسية لأفريقيا والعالم العربي، لا شيء أشد فتكاً من حربٍ تُنكر نفسها، وتُنسب لأطرافٍ تتبدل أدوارها وتُموَّه مصالحها، ومع اشتداد النيران في الخرطوم ودارفور والجزيرة، وبلوغ الحرب ذروتها عبر طائراتٍ مُسيّرةٍ وقصفٍ يستهدف المطارات والبنية التحتية، يصبح السؤال الذي يجب أن يُطرح بعمق: “هل من الممكن تحويل التصعيد العسكري إلى نافذةٍ تُطل على أفقٍ للسلام؟ أم أن الخراب صار قدَرنا؟”.

– إن التحول النوعي والتكنولوجي والاستراتيجي في الحرب، من حيث الأدوات والأهداف، يشير إلى لحظة فارقة، لم تعد مجرد مواجهة بين جيش ودعم سريع، بل أضحت واجهة صراعٍ إقليميٍ ودولي، تُدار فيها الخرائط عبر الوكلاء والذهب والموانئ، إننا أمام مشهدٍ معقدٍ، لكنه في الوقت نفسه يحمل فرصاً نادرة لإعادة هندسة الحل السياسي.

– لقد اجتهدنا منذ مايو 2023م للتواصل مع المملكة العربية السعودية فوُلد منبر جدة في لحظة تعويل دولي على مبادرة سعودية-أمريكية تُعيد الهدنة إلى واجهة المشهد، غير أن الاتفاقات الموقعة على الورق تمزقت عند أول قذيفة مدفع وقصف جوي، لما عرف بـ(الحواضن) وأُفرغ ذلك “العته” المنبر من محتواه، حتى صار أشبه بمنبرٍ للوعود المؤجلة لا للمواقف الحاسمة، لكن جدة، رغم تعثرها، لم تُدفن، وإن إحياؤها اليوم ممكن بل وضروري، شريطة أن يُعاد بناؤها على ثلاثة أسس:
– أولها: ضغطٌ دوليٌ فعليٌّ على الأطراف المعرقلة، عبر عقوبات ذكية وموجهة.
– ثانيها: شمولٌ حقيقيٌّ لكل أطراف النزاع، بما فيهم القوى المدنية والحركات المسلحة.
– ثالثها: ربط الهدنة بخارطة طريق واضحة المعالم نحو تسوية سياسية شاملة، لا مجرد وقفٍ مؤقتٍ لإطلاق النار.

– أما منبر القاهرة (2) فهو محاولة لاستدراك إخفاق القاهرة (1) الذي تعثّر تحت وطأة تضارب المصالح وتغوّل الأجهزة الأمنية على الحوار، وهذه المحاولة لا يجب أن تكرس الفشل السابق بل تتجاوزه، بأن تكون مصر جزءاً من الحل لا من الاستقطاب، وإن القاهرة، بما لها من ثقل تاريخي وصلات عميقة بالسودان، مطالبة اليوم بأن تُغادر مربع المطامع الجشعة موارد السودان واستئثارها بمياه النيل أو النفوذ السياسي، نحو مربع المصالح المشتركة والمصير المتكامل، وإن استقرار السودان هو خط دفاع مصر الأول جنوباً، وأي اضطرابٍ فيه ينعكس مباشرة على أمنها القومي، من المهاجرين واللاجئين إلى تهريب الذهب وتراجع حركة التجارة عبر البحر الأحمر؛ وما يعني موت سريري لمصادر مصر الريعية التي أهمها قناة السويس.

– وهنا نفتح السؤال على الأوسع: لماذا تتعثر مبادرات الحل؟ ولماذا كلما ظهرت بارقة أمل، تُطفأ على مذبح التدخلات الخارجية؟

– الجواب واضح ومؤلم: لأن الحرب في السودان ليست سودانية بالكامل، إنها ساحة تصفية حسابات إقليمية ودولية، فإيران ومصر وتركيا تمد الجيش بالسلاح عبر وسطاء، وبعض دول الخليج على رأسها الإمارات تدعم الدعم السريع، وإسرائيل تراقب وتُقيم التوازنات، وروسيا تجد في الذهب مرتكزاً استراتيجياً، والولايات المتحدة تنأى حيناً وتتدخل حيناً، وما بين هذا وذاك، يُدفن الأطفال في الرمال، وتُقطع الطرقات بين مدن كانت يوماً تعج بالحياة.

– في هذا السياق المأزوم، لا يكون استنهاض المبادرات مجرّد تحريكٍ للأوراق، بل هو فعل مقاومة سياسية في حد ذاته، المطلوب اليوم أن يُعاد بناء منصة موحدة، تُدمج فيها مسارات جدة والقاهرة والإيقاد وصولا للمبادرة اللندنية، تحت إشراف ثلاثي يشمل الأمم المتحدة، الاتحاد الأفريقي، ودولة إقليمية محايدة كجنوب أفريقيا أو رواندا، وتُوكل لهذه المنصة مسؤولية رسم معالم الانتقال: جيشٌ قومي موحد، عدالة انتقالية حقيقية، تسوية تضمن المشاركة لا الإقصاء، وحكم مدني يحقق التعافي الاقتصادي وجبر الضرر.

– أما القوى المدنية والحركات المسلحة الرافضة للحرب، فعليها أن تتجاوز انقساماتها المهلكة، وأن تعود إلى مشروع الخلاص الوطني كإطار جامع، دون مساومات تُعيد الإسلاميين من الشباك بعد أن خرجوا من الباب، فالمعادلة اليوم ليست بين جيش ودعم سريع، بل بين مشروع استبداد متعدد الرؤوس، ومشروع دولة مدنية ديمقراطية يتطلب تضحيات لا مزايدات.

● ختامًا: إن اللحظة الآن أكثر من أي وقت مضى، تفرض علينا أن نُحسن قراءة النار، لا لنُغذّيها، بل لنُطفئها بما تبقى من ماء العقل والحكمة والرشد، وإن فرص السلام نادرة لكنها ليست مستحيلة، وإن السودان، رغم الجراح، يملك من أبنائه وبناته، ومن تاريخه، ما يمكن أن يُقيم به معجزة البقاء.

فيا أبناء هذا الوطن العظيم، لا تركنوا لأبواق الحرب، ولاتتركوا النيران تكتب الفصل الأخير، بل كونوا أنتم الصفحة القادمة، فأنتم الغد المأمول.

#سودان_الغد
5 مايو 2025

orwaalsadig@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.