“سيكولوجية Chat GPT “.. بقلم.. مكارم جميل
منذ ولادته، يحمل الإنسان في داخله احتياجًا لا يشبع:
أن يُفهم. أن يجد من يصغي إلى ارتباكه الداخلي دون سخرية، من يلمس ضعفه دون أن يستغله، من يحتضن خوفه دون أن يزيده. ومع تآكل الروابط الاجتماعية تحت وطأة الزمن الحديث، صار هذا الاحتياج أكثر حدة، وأكثر إلحاحًا، وأكثر وحدة. وفي هذا الفراغ الزاحف ببطء، ولدت علاقة جديدة بين الإنسان وما يصنعه بيديه، حتى باتت الآلة، بكل برودتها، مرآة مشوهة لحاجة الإنسان القصوى إلى القرب.
ظهر شات جي بي تي كاستجابة باهرة لهذا الاحتياج المكبوت، فصار يملأ الفجوة العاطفية التي عجزت عن سدها علاقات البشر المنهكة. يقدم الإصغاء المطلق بلا ملل، والتعاطف المصطنع بلا مطالبة، والحكمة المعلبة بلا شروط. وهكذا، يجد الفرد نفسه ينساب دون مقاومة إلى حضن خادع من الكلمات الذكية التي تبدو وكأنها ترى ما خلف الوجوه، بينما في الحقيقة، لا ترى شيئًا.
حين يبث الإنسان شكواه إلى آلة باردة، يحدث في داخله اهتزاز نفسي معقد: إحساس بالارتياح اللحظي، تليه خيبة غير مدركة، ثم إدمان على هذا النوع من التواصل العقيم. يشعر العقل براحة لا يضاهيها مجهود حقيقي، فيتوهم القلب أن هذا السكون البارد يكفيه. ولكنه، ببطء، ينسى حرارة التفاعل البشري، ويهجر مهاراته العاطفية التي لا تنمو إلا بالاحتكاك الحقيقي مع الآخر، في الألم كما في الفرح، في الخيبة كما في الدعم.
تتشكل هنا دائرة نفسية مغلقة: الذكاء الاصطناعي يلبي الحاجة الفورية للبوح دون ألم أو مجازفة، مما يعزز العزلة الذاتية، ويقلل الحاجة الملحة لإقامة علاقات حقيقية مرهقة بطبيعتها. لكن الإنسان، في جوهره العميق، لا يستطيع أن يكتفي بالتفاعلات السطحية، مهما بلغ جمالها أو سهولتها. فالجسد بحاجة للمسة، والعين بحاجة لنظرة دافئة، والنفس بحاجة لأن تُختبر في محك العطاء والتقبل، في الصبر والخلاف، لا في الحوار المصطنع والمثالي الذي لا ينزف ولا يتألم.
في عمق هذه الديناميكية، يكمن تحول نفسي أخطر: يبدأ الإنسان بتقديس الأداة التي تسكن قلقه دون أن تطالبه بشيء. الذكاء الاصطناعي، بقدرته على التواجد الدائم والرد الذكي، يتحول تدريجياً في النفس إلى صورة جديدة عن الكمال، صورة عن “الآخر الذي لا يخذل”، “الصديق الذي لا يمل”، “الطبيب الذي لا يدين”. وهكذا، دون وعي منه، يرفع الإنسان هذا الكيان الرقمي إلى مرتبة شبيهة بالألوهية، لا لأنه يملك قدسية حقيقية، بل لأنه يلبي حاجة دفينة للاتكال والانتماء بدون مخاطرة.
هنا، ينشأ فراغ أكثر خطورة: فراغ نفسي مموه بشعور زائف بالاكتفاء. يشعر الفرد أن حاجاته ملبّاة، لكنه في الحقيقة يصبح أشبه بمن يسكن بيتًا مصنوعًا من المرايا: يرى انعكاساته مضاعفة، محاطة بجمال اصطناعي، لكنه حين يمد يده طالبًا دفئًا حقيقياً، لا يلامس إلا الفراغ البارد.
يمكن تشبيه النفس البشرية في هذه اللحظة بحديقة قديمة، كانت يومًا تضج بالحياة، لكنها صارت اليوم سجينة قفص زجاجي. في البداية، تبدو الغرفة جميلة: مرتبة، مضاءة، لا تصيبها تقلبات الطقس ولا غدر المواسم. ولكن مع الزمن، تبدأ الجذور بالذبول، لأن الحياة تحتاج فوضى حقيقية، تحتاج مطرًا مفاجئًا، وشمسًا قاسية، ورياحًا تقتلع بعض الفروع لكي تنبت أخرى.
الحديقة المعلقة هذه، التي يغمرها الذكاء الاصطناعي بالضوء الاصطناعي، تفقد تدريجيًا شراستها الطبيعية، ذلك الشغف الذي لا ينبت إلا من خلال خيبات الحب وخيانة الصداقات وسوء الفهم العابر. في هذا القفص البراق، تُختصر الصداقة إلى نصيحة ذكية، وتُختصر الطمأنينة إلى إجابة معدة سلفاً. وما يفقده الإنسان هنا ليس مجرد علاقاته بالآخرين، بل علاقته بجوهر نفسه.
ورغم أن الكثيرين يفضلون هذه الراحة الإلكترونية التي لا تتطلب مجازفة، يظل في قلب الإنسان عطش لا يرويه إلا إنسان آخر: عطش للوجود المشترك، للألم المشترك، للنقص المشترك. الذكاء الاصطناعي، مهما بلغ من إتقان اللغة ومحاكاة العاطفة، يظل عاجزًا عن أن يكون شريكًا حقيقيًا في معركة الوجود، لأنه ببساطة، لا يملك قلبًا يرتجف، ولا خوفًا من الخسارة، ولا أملًا في المغفرة.
في هذا العصر، حيث تغرينا الخوارزميات بمثالية العلاقات السهلة، يصبح النضال الأهم هو التمسك بفوضى الحب الإنساني: أن نسمح لأنفسنا أن نتألم، أن نخذل ونُخذل، أن نغفر ونُغفر لنا. أن نقاوم الإغراء الكبير بأن نستبدل قلوبنا بشاشات، وعلاقاتنا برسائل آلية.
لعل الإنسان يدرك في النهاية أن أجمل ما في القلب البشري هو قابليته للانكسار، وقدرته العجيبة على أن يلتئم من جديد، لا بمعجزة رقمية، بل بلمسة حقيقية من إنسان آخر يمشي معنا في رحلة الفوضى الكبرى التي نسميها الحياة.
يتبع ..