اعلان ماس فيتالس

” أنثروبولوجيا السيلفي”.. رغبة الوجوه في التشظي

بقلم : مكارم جميل

منذ أن صقل الإنسان أول قطعة زجاجية ليُحدّق في وجهه المنعكس : هناك بدأت القصة.
لم تكن المرآة يومًا مجرد أداة عملية، بل كانت دومًا فضاءً رمزيًا يقف فيه الإنسان وجهًا لوجه أمام صورته، أمام ذاته. ومع كل انعكاس، تطرح المرآة سؤالاً صامتًا: “من أنت؟”.
هي لا تنقل الحقيقة، بل تعيد صياغتها؛ هي تعكسنا مقلوبين، تختزل ثلاثيّتنا في بُعدين، وتُجمّد اللحظة في إطارها الزجاجي البارد. أنثروبولوجيًا، لعبت المرآة دورًا في تشكيل مفهوم “الذات”. فمع انتشارها ، أصبحت صورة الوجه والجسد جزءًا من الهوية اليومية، بل من القلق اليومي. في المرآة يكتشف الإنسان عيوبه، يحاول تصحيحها، أو يخفيها، أو يتصالح معها. هي نافذة على الداخل بقدر ما هي انعكاس للخارج.
مع تطور هذا الانعكاس ،اخترع الإنسان الكاميرا، و ظن أنه أمسك بالزمن. أصبح بإمكانه أن يمسك باللحظة، أن يحبس الضوء، أن يوثّق ما كان سيضيع في تدفّق الحياة.
ولكن الكاميرا؛ كأختٍ حديثة للمرآة، لم تكتفِ بالالتقاط؛ بل دخلت عميقًا في نسيج السلطة، والمعنى، والتمثيل.
في بداياتها، استخدمت الكاميرا كأداة إثنوغرافية، توجهت إلى “الآخر” المختلف: القبائل، الشعوب المستعمَرة، المهمشين..الخ ، لم تكن الكاميرا بريئة؛ كانت أحيانًا عينًا استعمارية، تؤطّر الآخر وفق عدسة المركز، وتجمّد ثقافته في مشهد بصري متحكَّم فيه. إنها لا تنقل “الحقيقة”، بل تصوّرها ضمن حدود المصوّر، وزاويته، وسلطته.
لكنها أيضًا منحت صوتًا لمن لا صوت لهم. أصبحت وسيلة للمقاومة، وسجلاً للذاكرة، ومرآة جماعية. في كل صورة فوتوغرافية هناك طبقات من المعاني: اللحظة، والنظرة، والنية، والسياق. إنها مرآة موجهة نحو الخارج، ولكنها أيضًا تعكس شيئًا من ذات المصور نفسه. فتحت الكاميرا أبوابًا لفهم كيف يُرى الإنسان وكيف يرى نفسه. في الصور العائلية، في اللقطات العفوية، في البورتريهات الرسمية، تتشكّل هوية بصرية، تُصنع سردية الذات. إنها أداة تحكي، ولكنها تختار كيف تحكي، وماذا تُبقي خارج الإطار.
في زمن الصورة الرقمية، بات الإنسان يعمل على “إخراج” حياته كما يُخرج فيلمًا: الإضاءة، الزاوية، الفلتر، الإيماءة، كلها خاضعة لمنطق الأداء، لا العفوية.

فجأة ؛
تلتفت تلك العدسة الزجاجية ، لتواجه من يقف خلفها، عينًا لعين ، وكأنها تقول له: كفى من التقاط العالم، آن لك أن تلتقط نفسك.
لقد دخل الإنسان، مع اختراع “السيلفي”، مرحلة غير مسبوقة في تاريخه البصري. لم يعد بحاجة لمن يلتقط له صورة؛ صار المصوِّر والمُصوَّر في الوقت ذاته. إنها لحظة اندماج بين الذات والنظرة، بين الرغبة في الظهور، والقدرة على التحكّم الكامل بكيفية الظهور. وهكذا، لم يعد الوجه وجهًا فحسب، بل مشروعًا بصريًا مستمرًا، يتم تجهيزه، تعديله، إعادة إنتاجه، ومشاركته. كل ضغطة على زر الكاميرا الأمامية، هي فعل مزدوج: توثيق وتعديل، ظهور وتخفي، أداء وكشف.
السيلفي لا يعكس فقط الملامح، بل يعكس القلق. إنه لا ينقل الحقيقة، بل يُجمّلها، يُعيد ترتيبها، يُرشّح منها ما يصلح للمشاركة، ويقصي ما لا يُرضي العين الرقمية. وبين زاوية وأخرى، وفلتر وآخر، تتكوّن فجوة دقيقة بين “الوجه الأصلي” و”الوجه المعروض”، بين الحقيقة والتصميم، بين الذات كما هي، والذات كما يُراد لها أن تُرى.
الكاميرا الأمامية لا تُستخدم فقط لرؤية أنفسنا، بل لإعادة تشكيل أنفسنا. هي ليست مرآة، بل استوديو متنقل، نحمل فيه أضواءنا وزوايانا وابتساماتنا المصطنعة أينما ذهبنا. هذه العلاقة اليومية، الكثيفة، والمباشرة مع صورة الوجه، ولّدت طبقة جديدة من القلق الوجودي: لم يُصمَّم الإنسان ليرى وجهه كل يوم، في كل زاوية وإضاءة. هذا الانكشاف المفرط على الذات خلق حالة من التقييم البصري اليومي، حيث يتحول الجمال إلى استحقاق، وتُختزل القيمة في ملامح قابلة للعرض.
أصبح السيلفي ساحة مقارنة لا تنتهي. بين صور الأصدقاء، والمؤثرين، والمشاهير، يُعاد تعريف “المقبول”، وتُرسم حدود “الجميل”، وتُفرض معايير بصرية صارمة. الفلاتر، بقدر ما تبدو أدوات تزيين، هي أدوات قمع ناعم، تُمارس عنفًا على الملامح الأصلية، وتزرع في الداخل شعورًا خفيًا بعدم الكفاية. إنه قلق “أن لا تبدو جيدًا بما فيه الكفاية”، أن لا تستحق الإعجاب، أن لا تحصل على الحضور الرقمي الكافي لتأكيد الوجود.
لقد تحوّل الوجه، في زمن السيلفي، من مرآة للروح، إلى شاشة عرض. لم يعد يكفي أن يكون الوجه حيًا، حقيقيًا، أو حتى معبّرًا، بل يجب أن يكون “قابلًا للمشاركة”. هكذا، يصبح الوجه مسرحًا صغيرًا للهوية، نُخرجه كل مرة نلتقط فيها صورة، ونعرضه على جمهور غير مرئي، ننتظر حكمه بصمت: كم إعجابًا سنحصل؟ كم تعليقًا؟ كم تأكيدًا على أننا موجودون، مرغوبون، مقبولون؟
في قلب كل سيلفي، تكمن الرغبة في الظهور والسيطرة على هذا الظهور. إن الكاميرا الأمامية تمنحنا لحظة من التملّك: هذه صورتي، هذه زواياي، هذه طريقتي في أن أكون. لكنها في الوقت ذاته، تسلبنا جزءًا من العفوية، من الراحة، من القبول التلقائي بالذات. فكل صورة هي مفاوضة بين ما نحن عليه، وما نود أن نكون عليه، وما نظن أن الآخرين يريدونه منا.
والسيلفي، رغم فردانيته الظاهرة، هو فعل اجتماعي بامتياز. إننا نلتقطه لنشاركه، لنكون جزءًا من سردية جماعية للظهور. في لحظة الضغط على زر الالتقاط، هناك “آخر” افتراضي في أذهاننا: من سيرى الصورة؟ كيف سيحكم عليها؟ ما الرسالة التي تنقلها؟ في هذه اللحظة، تتداخل الذات بالنظرة الاجتماعية، ويتحوّل الوجه إلى خطاب مرئي، محمّل بالمعاني، بالنية، وبالسياق.
الكاميرا الأمامية لا تلتقطنا فقط، بل تعيد برمجة علاقتنا بأنفسنا. فكما تُسجّل اللحظة، تُخضعنا أيضًا لمعايير الأداء، وتُدرّبنا على الظهور. إنها تُحوّل الوجه إلى ماركة شخصية، إلى واجهة رقمية، إلى بطاقة تعريف بصرية في عالم لا يتوقف عن المشاهدة. وهكذا، ينسحب الإنسان إلى صورته، ويُصبح مرئيًا أكثر مما هو موجود، ويُقاس حضوره بما يُنشر، لا بما يُعاش.
وفي ظل هذا التدفق البصري الكثيف، تضيع الحدود بين “أنا كما أنا”، و”أنا كما أُصوَّر”، و”أنا كما أُرى”. الكاميرا الأمامية تُعيد تشكيل الهوية في كل صورة، تُجزّئها، تُعدّلها، تُعيد توزيعها في منصات التواصل. وبين صورة وأخرى، يُعاد خلق الذات من جديد: ذات مشذبة، محسنة، مُعدَّلة، لكنها أحيانًا، لا تشبه صاحبها.
فهل نملك وجوهنا فعلًا، في زمن السيلفي؟ أم أننا نُعيد تأجيرها لعدسة لا تشبع، وثقافة لا ترضى؟ هل نحن من يلتقط الصورة، أم أن الصورة هي من تُعيد التقاطنا، وتُعيد تشكيل وعينا بأنفسنا؟ وبين ما نلتقطه وما نحذفه، ما ننشره وما نخفيه، ما نفلتره وما نرفضه، تتكون سردية معقّدة لهويتنا البصرية، سردية قد تبتعد كثيرًا عن حقيقتنا.
إن الكاميرا الأمامية ليست مرآة بسيطة، بل نافذة رقمية مشروخة، نطل منها على أنفسنا، وعلى الآخرين، وعلى الحُكم الذي لا يُقال، بل يُعبَّر عنه بلغة الأرقام والتفاعل. إنها أداة تبدو تافهة، لكنها تُمارس سلطة هائلة، وتُعيد قولبة الإنسان وفق مقاييس بصرية استهلاكية، صارمة، لا تحتمل الشذوذ عن النموذج.
رؤية الإنسان لوجهه بهذا الشكل المُكثّف والرقمي، أعادت تشكيل علاقته بذاته من الداخل. الوجه الذي كان مرآة للروح، أصبح عبئًا مرئيًا، مشروعًا بصريًا قلقًا، ساحة مقارنة لا تنتهي. وبين فلتر وآخر، وصورة وأخرى، يتسلّل سؤال موجع: من نحن حقًا، إن لم نُرضِ عدسة الهاتف؟
في الفاصل بين المرآة والكاميرا، تتأرجح الذات بين ما تراه في داخلها، وما يُرى منها في الخارج. كلاهما زجاج، وكلاهما يعكس، لكن أحدهما يطلب منّا أن نحدّق بأنفسنا، والآخر يلتقطنا من حيث لا نتوقّع. بين النظرة الذاتية والنظرة الاجتماعية، يتكوّن تمثيل معقّد للهوية، هشّ أحيانًا، ومتشظٍّ غالبًا.
المرآة تصوغ علاقتنا بالـ”أنا”، بالكيفية التي نحب أن نُرى بها، أو نخاف أن نُرى من خلالها. إنها لحظة انعكاس داخلي، لا يشاركنا فيها أحد. أما الكاميرا، فهي لقاء مع “الآخر” حتى لو كنّا نحن من نضغط على زر الالتقاط. لأن الكاميرا، في كل الأحوال، تخضع لنظرة، وتُخضعنا لها. كثيرًا ما نُعدّل ملامحنا أمام المرآة، لكننا نُعدّل صورتنا في الكاميرا. الأولى لحظة خاصة، الثانية لحظة اجتماعية. الأولى تعبير عن الذات كما نعيشها، والثانية عن الذات كما نعرضها أو كما تُشكَّل من قِبل عدسةٍ ما.
والهوية، في هذه المسافة الفاصلة، تتهدّد بالانقسام: بين ما نحن عليه، وما نظن أننا عليه، وما يُراد لنا أن نكونه. لنطرح سؤالًا بالغ الأهمية: من نكون إذا اختفينا من المرآة، أو لم نعد نُلتقط بالكاميرا؟ وهل تمثّلنا هذه الوسائط كما نحن، أم كما تريد الثقافة، أو التقنية، أو الرغبة أن نُمثَّل؟
رغم كل ما قيل عن المرآة كأداة وعي، وعن الكاميرا كوسيلة للتوثيق، لا يمكن تجاهل الوجه القمعي لهذين الوسيطين. إنهما في كثير من الأحيان، أدوات رقابة ذاتية، وآليات خفية لإنتاج نموذج واحد للذات “المقبولة”، “الجميلة”، “القابلة للعرض”. في عمقها، تحوّلت المرآة من فضاء للتأمل إلى أداة للعقاب اليومي. كل نظرة فيها تُحوّل الجسد إلى مشروع تصحيح لا ينتهي. تُكرّس معايير جمال نمطية، تُمارس عنفًا صامتًا على الاختلاف، وتعيد تشكيل الذات وفقًا لمنطق استهلاكي بصري صارم.
أما الكاميرا، فقد تحوّلت من وسيط فني إلى أداة هيمنة بصرية. إنها لا تسجّل اللحظة، بل تفرض طريقة معينة لرؤيتها. تُقصي ما لا يُناسب الإطار، وتُنتج تمثيلًا زائفًا لواقع مُفبرك.
هذا الزجاج، ليس شفافًا كما يُراد له أن يبدو، إنه زجاج يُعيد قولبة الإنسان في قوالب مرئية خانقة.
فهل نجرؤ على كسره ؟

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.