” لهاثان متوازيان “
بقلم : مكارم جميل
يبدو الحب والحرب نقيضين على طرفي نقيض، أحدهما يهب الحياة، والآخر يسلبها. ومع ذلك، لا تخلو علاقة أحدهما بالآخر من تشابهٍ غريب، يشبه التوأم الذي افترق في الخلق، واجتمع في المصير. كلاهما يقتحم القلب دون استئذان، ويشتعل على حين غفلة، ويترك خلفه أرضًا لم تعد هادئة كما كانت.
الحب حرب لا تُعلن فيها هدنة، ولا تُرفع فيها رايات بيضاء. نقاتل فيها بالعناق بدل السلاح، وبالاشتياق بدل الرصاص. نحاصر فيها أرواحنا بالمشاعر، ونخوض المعارك على جبهات الصبر والغيرة والحنين.
أما الحرب، فهي حبٌّ مريضٌ ضلّ طريقه. حرب العاشق المجنون الذي لم يجد وسيلة للتعبير إلا بالدم. وكأنها حبٌّ فقد إنسانيته، فصار خرابًا لا يُجيد غير الفقد.
تأمل هذا التناقض العجيب بين أن تُحب كأنك تُحارب، أو تُحارب كأنك تُحب.
لغة واحدة… رصاصها المجاز.
لا عجب أن تتشابك مفردات الحب والحرب في اللغة، كما تتشابك الأقدار في الحياة. نسمع من يقول: “فتح قلبه لها”، كما يُقال: “فتح المدينة”، وكأن القلب مدينةٌ محصّنة تحتاج إلى اقتحام.
يُقال: “احتلّت عقله”، كما تحتل الجيوش أرضًا، وتُروى قصص الغرام بعبارات من قبيل: “أصابني سهم عينيها”، و”سلبتني إرادتي”، و”أسرتني ابتسامتها”.
اللغة، كعادتها، تعكس ما يتخفّى في باطن التجربة البشرية. فالحب، وإن بدا ناعمًا وعذبًا، إلا أن وقعه في النفس لا يقلّ عن وقع الحرب في الجسد. كلاهما يغيّر الخارطة: خارطة المدينة أو خارطة القلب.
حتى العشاق، حين يتألمون، لا يقولون “أحزنني”، بل يقولون: “قتلني”، “دمّرني”، “سحق قلبي”؛ كأن الحب معركةٌ خاسرةٌ يخرج منها المحبّ مثقلاً بالهزائم، ممتلئًا برغبةٍ لا تنطفئ في إعادة الكَرّة.
الحب لا يُعلن حربه في الخارج، بل يخوضها في الأعماق. هو اشتباكٌ صامت بين القلب والعقل، بين ما نريد وما ينبغي، بين التعلّق والكرامة، بين البقاء والرحيل. إنه قتال يومي لا يُرى، تنزف فيه الأرواح دون دم، وتُحمل فيه الخسائر على هيئة ذكرياتٍ لا تندمل.
في الحب، نحن مقاتلون بلا دروع، نندفع بأملٍ نقي، ونرجع بجراحٍ نجهل مصدرها. نحاصر أنفسنا بالاحتمالات، ونقصف أحلامنا بتوقعاتٍ لا تتحقق. ثم نجلس فوق ركامنا، نبحث عن معنى لما حدث، فلا نجد إلا صوت القلب يهمس: “أحببت… ولهذا تألمت”.
أما الحرب، فهي وجهٌ مشوَّهٌ للحب، أو حُبٌّ تحوَّل إلى رغبة امتلاك لا تعرف الرحمة. كثير من الحروب تبدأ بحلمٍ نبيل: تحرير، إنقاذ، استعادة حق، لكنها سرعان ما تتحول إلى دمار، لأن الحلم نفسه لم يكن نابعًا من حبٍّ حقيقي، بل من أنانيةٍ متنكرةٍ في صورة قضية.
الحرب، في جوهرها، افتقادٌ للحب؛ لأن من يحب لا يقتل، ومن يعرف طَعم العناق لا يحمل البندقية، ومن ذاق جمال الألفة لا يهدم البيوت على رؤوس أهلها.
في الحرب، يُحصى القتلى بالأرقام، وتُوثّق الجثث، وتُرفع الرايات فوق الأنقاض.
أما في الحب، فقتلى المشاعر لا يُعدّون، ولا تُكتب أسماؤهم على الجدران، بل يُخفَون في صمت العيون، في انطفاء النظرات، في رسائل لم تُرسل، وأغانٍ لم تُكتمل.
الضحايا في الحب أكثر عددًا، وأكثر صمتًا. هم أولئك الذين أحبّوا بصدق، فخُذلوا. الذين انتظروا طويلاً، ولم يأتِ أحد. الذين راهنوا بقلوبهم، فخسروها. الذين لم تُحطّمهم قذيفة، بل كلمة. لم يسقطوا في معركة، بل في لحظة غياب.
وفي كل حرب، كما في كل حب، يوجد خاسر، حتى لو ظنّ أنه المنتصر. المنتصر في الحب قد يكون الجاني، المنتصر في الحرب قد يكون القاتل. وفي كليهما، تظل الخسارة واحدة: إنسانٌ فقد جزءًا من إنسانيته.
فهل كان الحب يستحق تلك المعركة؟ وهل كانت الحرب سوى خيانة كبرى لكل أشكال الحب الممكنة؟
ربما لا نملك إجابةً حاسمة، لكننا نعرف أن الحب حين يكون صادقًا، فإنه لا يدمّر، لا يُشوّه، لا يُقصي، لا يحتل.
هو الجدار الأخير الذي نستند إليه حين تهدمنا الحياة، وهو الضوء الذي يتسلّل إلى الخنادق حين تغيب الشمس عن العيون.
ربما لا نحتاج إلى أكثر من لحظة صدق… نختار فيها الحب، لا بوصفه نشوةً عابرة، بل كفعل مقاومةٍ ضد الخراب.
لعلّها الحرب الوحيدة التي تستحق أن تُخاض، وتُربح، وتُعاد مرارًا، دون أن نندم.
و ربما في نهاية ، لا فرق كبيرًا بين الحب والحرب إلا في النوايا. فالحرب تبدأ بالخوف وتنتهي بالفقد، أما الحب، إن لم يبدأ بالصدق، سينتهي بالخذلان. كلاهما اختبارٌ لقوة الإنسان وهشاشته في آنٍ واحد.
لذلك، حين نحب، فلنحب كمن يُرمّم، لا كمن يهدم؛ كمن يزرع، لا كمن يغزو.