
صناعة الدواء فى السودان.. “تحديات ما بعد الحرب”
دكتور علي بابكر : الأمين العام لمجلس الأدوية والسموم
شهدت سنوات ما قبل الحرب تطورًا ونموًا لصناعة الدواء إذ أن مساهمتها فى تحقيق الوفرة الدوائية كان مقدرًا من حيث إجمالى تكلفة الدواء أو من حيث الكميات لعدد من الأصناف التي كان يعتمد عليها النظام الصحي وشهدت ذات الفترة إنشاء العديد من المصانع منها ما وصل لمرحلة التشغيل والانتاج.
جاء إهتمام الحكومات السابقة بأمر صناعة الدواء متأخراً ففى الأعوام 2011 ،2015م زادت وتيرة الاهتمام إذ تم فى العام 2015م تخصيص مبلغ من النقد الأجنبي بسعر الصرف الرسمي لتمويل إستيراد المواد الخام وساهم ذلك فى تحقيق نسبة نمو بلغت 35% فى مبيعات الأدوية وبالرغم من ذلك إلا أن صناعة الدواء عانت من ضعف التمويل وعدم توفر النقد الأجنبي والاعتماد على التمويل الذاتي، كما أن مصانع الدواء تستورد غالب إحتياجاتها من الخارج ويشمل ذلك المواد الخام والماكينات وقطع الغيار ومواد التحليل المعملى ومواد التعبئة والتغليف، وقد أثر ذلك على استقرار الانتاج والانتاجية
كما عانت الصناعة الدوائية أيضًا من إشكالات جوهرية تمثلت فى ضعف آليات التطوير والتسويق وحصر إنتاجها فى أصناف محددة التكلفة والقيمة المضافة.
*أثر الحرب على مصانع الأدوية:*
تضررت مصانع الأدوية مثل غيرها من المصانع الأخرى بسبب الحرب، كما طالت عمليات النهب والتخريب الممنهج جزءًا من بنياتها الأساسية وتؤكد المعلومات الأولية أن الأضرار تتفاوت بين البسيطة والجزئية ولكن غالب المصانع تعرضت لأضرار جزئية بسيطة تتمثل فى الآتي:
* تضرر البنيات الأساسية لخدمات الكهرباء والماء.
* إتلاف المواد الخام.
* تضرر بنية وهياكل القليل من المصانع.
* تضرر البنية الادارية والمتمثلة فى الأثاث المكتبي والأجهزة الالكترونية والكهربائية وعربات النقل والترحيل والتسويق وتلف المستندات.
* هجرة ونزوح الكفاءات والعاملين.
تكمن أكبر تحديات الصناعة الدوائية في فقدانها لرأسمالها التشغيلي الناتج من الأضرار المباشرة للمخزونات وتوقف العمل والديون الهالكة بسبب التضخم وتدني قيمة الجنية السوداني مقابل العملات الأجنبية، كما أن طول فترة التوقف سيؤثر على شبكة العلاقات التي تأسست إما عبر سلاسل الامداد أو علاقة المستهلك بالمنتج أو علاقات التمويل المختلفة.
*رؤية لما بعد الحرب:*
بالرغم من تضرر المصانع وتآكل رأسمالها التشغيلي إلا أنها تمتلك من الفرص ونقاط القوة ما يؤهلها من إستعادة الانتاج وزيادة أرباحها بوتيرة أعلى من السابق ويعتمد ذلك على إرادة أصحاب المصانع وقدرتهم على توفير الموارد المالية وتوظيفها توظيفاً سليماً مستفيدين من الوضع الاقتصادي للبلاد وحوجتها الماسة والمستمرة للدواء، ودون أدنى شك أن توفر الأمن والخدمات الأساسية اللازمة للاستقرار تساعدان فى سرعة إستعادة الانتاج وتحقيق الوفرة الدوائية. ويمكن تقسيم خطة استعادة الانتاج إلى مرحلتين:
*(أ) مرحلة التعافى:*
فى هذه المرحلة يؤخذ فى الاعتبار معالجة آثار الحرب على المصانع والمعوقات الاقتصادية والتجارية والمهددات الأمنية التى تعوق عملية إعادة عمليات الانتاج وعليه فإنه يتوجب عمل الآتي:
* زيادة الدعم السياسي من الدولة للصناعة الوطنية.
* إعادة ترميم وصياغة وتأهيل البنى الرئيسية للمصانع وتوفير الأمن.
* إستعادة سلاسل الامداد حسب الأولويات.
* توفير التمويل اللازم للتشغيل وإعادة الانتاج.
* عمل شراكات بين المصانع فيما بينها أو مع جهات تصنيع خارجية لها من الامكانيات ما يدعم إستعادة الانتاج والتطوير.
* بالتنسيق مع جهات تمويل داخلية وخارجية العمل على توفير مخزونات من المواد الخام ومدخلات الانتاج الأخرى.
* إختيار الأصناف المراد تصنيعها بعناية وتوافقها مع أولويات تحقيق الوفرة الدوائية .
* التفكير فى إستعاضة هجرة الكوادر ونزوحها بأفكار وبرامج عملية وفاعلة وتمكين العاملين من الاستقرار.
* مراجعة أوضاع المصانع تحت الإنشاء وعمل حوافز تشجيعية لتسريع إكمال المنشآت.
فى هذه المرحلة والتي تستمر لعامين على أقل تقدير يجب إستعادة أكثر من 50% من الطاقة التشغيلية والسعة الانتاجية للمصانع والتركيز على إستعادة رأس المال والعلاقات الأفقية والرأسية.
*(ب) مرحلة التطوير واستدامة الانتاج:*
فى السابق كانت المصانع تقوم بانتاج 2,000 طن من المادة الفاعلة الأولية والمتحولة إلى منتج نهائي دوائي، وتقدر مساهمتها فى إجمالى تكلفة الدواء فى حدود 200 مليون دولار وتستوعب أقل من 3 ألف وظيفة ولكن مساهمتها فى الناتج المحلى ضعيفة مقارنة بصناعات تحويلية أخرى مثل صناعة المواد الغذائية، وللوصول لحالة الاستقرار المستمر والتطور لابد من الآتي:
* حسم الرؤية الاقتصادية للانتاج إما لصالح الإكتفاء الذاتي من بعض الأدوية أو لتحسين الميزان التجاري الدوائي (زيادة الصادرات على حسب الواردات).
* زيادة السعات الانتاجية بتصنيع أكثر من 5 ألف طن من المادة الفاعلة وتوفير أكثر من 3 ألف وظيفة جديدة.
* زيادة المساهمة فى الناتج المحلي وإنشاء آليات للتسويق الداخلي والخارجي.
* تفعيل الشراكات بالداخل والخارج وجذب الاستثمارات الأجنبية.
* تفعيل آليات الاعلام وإنتاج ثقافة (صنع فى السودان) لزيادة تقبل المستهلك للمنتجات المحلية.
* تقديم حوافز مختلفة من المؤسسات المالية والصحية لضمان نمو رأسمال الصناعة الدوائية وإستقرار الانتاج.
* حث البنوك التجارية تمويل المصانع تحت الانشاء وفق شروط تمويل مقبولة.
* إدخال التقدم التكنولوجي فى الصناعة وضرورة إدخال مجموعات دوائية جديدة فى قائمة منتجات المصانع.
* ضرورة إنشاء مراكز دراسات وتدريب فى مجال التصنيع الدوائي والاستعانة بمؤسسات التعليم العالي والتقنى.
خلال هذه الفترة والتى تستمر لمدة 3 أعوام أو تزيد لابد من المساهمة فى الناتج المحلي بنسبة تصل إلى 1% وهو ما يضاعف من كميات وأنواع الأدوية المنتجة ويغير من شكل العمل ولن يتم ذلك إلا إذا تبنت الحكومة لقوانين وقرارات تدعم الصناعة كخيار إستراتيجي يستجيب لتحديات ما بعد الحرب.
ويقول بابكر إن إن مستقبل صناعة الدواء فى السودان يرتبط بمدى مواكبة هذه الصناعة للمتغيرات والتطورات الاقتصادية والصحية بالبلاد وهذه الأوضاع فى مجملها تحتاج لبناء إستراتيجيات وتبنى سياسات تضمن إستمرار هذه الصناعة وتطورها هذا فى حال أن الدولة وضعت الصناعة كأحد الخيارات الضرورية لاعادة الاعمار والنهضة الاقتصادية ورفاهية المجتمع.