اعلان ماس فيتالس

`حنين اصطناعي `

بقلم:مكارم جميل

استيقظتُ هذا الصباح على إشعارٍ في هاتفي: “ذكرى من هذا اليوم قبل خمس سنوات”. نقرة واحدة، فتحت الصورة، فرأيتُني أضحكُ وسط وجوهٍ أعرفها، لكنني بالكاد أذكر تفاصيل ذلك اليوم. كانت الشاشة تعرض صورةً محفوظة، لكنها لم تحفظ رعشة الضحكة، ولا دفءَ اللحظة، ولا تلك النكهة الخفية للزمن. تساءلت: هل أصبحت ذاكرتنا امتدادًا لأجهزتنا؟ هل ما نعيشه اليوم يُحفظ في صدورنا أم في سحابةٍ رقميةٍ تنتظر أن تذكرنا بما نسيناه؟

في زمنٍ صار فيه الذكاء الاصطناعي شريكًا في تذكيرنا بالمواعيد وتنظيم حياتنا، باتت أجهزتنا صندوق ذكرياتنا الجديد. لم نعد نخشى النسيان، فالصور والمحادثات والتسجيلات الصوتية تحفظ كل شيء بدقة باردة، لكنها، في الوقت ذاته، تسلبنا نعمة الحنين العفوي، ذلك الشعور الفطري الذي يجعلنا نبحث في أعماقنا عن لحظة غابرة، فنجدها موشومة في القلب لا في الذاكرة الخارجية.

ولكن، أيهما أصدق؟ الذكرى التي ينعشها جهازٌ لا يخطئ، أم تلك التي تتغير ملامحها مع الزمن، فتصبح أكثر جمالًا أو ألمًا حسب ما نشعر به؟ الذكاء الاصطناعي لا ينسى، لكنه أيضًا لا يحنّ. إنه يحفظ الحدث كما كان، لكنه لا يدرك كيف شعرتَ به. يمكنه أن يعرض لك صورة تجمعك مع شخصٍ فقدته، لكنه لن يستوعب رعشة الألم التي تسري فيك حين تراها.

ربما علينا أن نسأل أنفسنا: إلى أين نمضي؟ هل نحن في طريقنا إلى استبدال ذاكرتنا الحية بذاكرة إلكترونية؟ هل سنصل إلى يومٍ نعتمد فيه بالكامل على آلاتٍ تخبرنا بمن كنا، وماذا أحببنا، وكيف شعرنا؟ أم أننا سنجد توازنًا، نسمح فيه للآلة أن تساعدنا دون أن تتحكم في ذاكرتنا العاطفية؟

تأثير التكنولوجيا على ذاكرتنا يتجاوز مجرد حفظ الصور والمعلومات؛ إنها تعيد تشكيل إدراكنا للزمن والمشاعر. حين نعتمد على الذكاء الاصطناعي لاستعادة لحظاتنا، هل نعيشها مجددًا أم نُعيد بناءها وفقًا لما تُريده لنا الخوارزميات؟ الصور الرقمية قد تذكرنا بالماضي، لكنها أحيانًا تفرض علينا شعورًا معينًا لم نكن لنشعر به لو لم نرَ الصورة.

هذا الاعتماد المتزايد على التخزين الرقمي قد يؤدي إلى ضعف في القدرة على الاسترجاع الطبيعي للذكريات. الإنسان بطبيعته ينسى بعض التفاصيل ويُضفي طابعًا شخصيًا على ذكرياته، ولكن عندما تصبح كل لحظة مؤرشفة، نفقد هذه القدرة على إعادة تشكيل الماضي وفقًا لحالتنا العاطفية. وهنا تنشأ معضلة نفسية: هل نعيش حاضرنا بحرية، أم أننا مقيدون بما تحفظه لنا أجهزتنا؟

إن استرجاع اللحظات من خلال الأجهزة الذكية قد يعزز مشاعر الحنين، ولكنه أيضًا قد يخلق نوعًا من القلق العاطفي. فبدل أن نترك الذكريات تأخذ مسارها الطبيعي في وعينا، نجد أنفسنا عالقين في دوامة من الاسترجاع المستمر، مما قد يفاقم مشاعر الفقد أو الحنين المبالغ فيه.

ربما علينا إعادة النظر في علاقتنا مع التكنولوجيا، ليس فقط كوسيلة لحفظ الذكريات، ولكن كأداة ينبغي أن تعمل لصالحنا لا أن تسيطر علينا. يمكننا استخدام الذكاء الاصطناعي لتوثيق اللحظات دون أن نسمح له بأن يتحكم في مشاعرنا أو يحدد لنا كيف يجب أن نتذكر.

مع تطور الذكاء الاصطناعي، لم يعد يقتصر دوره على تخزين الذكريات فقط، بل بات يشارك في إعادة تشكيلها. خوارزميات الذكاء الاصطناعي تحدد لنا أي الصور يجب أن نتذكرها، وتقترح علينا “أفضل لحظاتنا” بناءً على معايير رقمية لا تعكس بالضرورة قيمتنا العاطفية الخاصة. هل يمكن أن يخلق هذا نوعًا من التلاعب بالذاكرة؟ هل نحن من يقرر ماذا نتذكر، أم أن الخوارزميات تفعل ذلك بالنيابة عنا؟

الأمر لا يتوقف عند الصور، بل يمتد إلى الذكاء الاصطناعي القادر على محاكاة أصوات من فقدناهم، أو حتى إعادة تكوين محادثاتنا السابقة معهم. قد يبدو هذا تقدمًا مذهلًا، لكنه أيضًا قد يحجب عنا عملية التعايش الطبيعي مع الفقد والنسيان. عندما تصبح الذكريات مؤتمتة وقابلة للاسترجاع الفوري، فإننا نفقد تدريجيًا مهارة الحنين الفطري التي تجعلنا نُكوّن علاقات عاطفية حقيقية مع الماضي

بين الذاكرة الرقمية والقلب البشري مسافة شاسعة. الأولى تحفظ المعلومات، والثاني يحفظ الإحساس. قد نتعلق بصورٍ تخزنها هواتفنا، لكن حين تنطفئ الشاشات، يبقى السؤال والأهم: ما الذي يبقى فينا؟

تعليق 1
  1. A.J يقول

    يبقى فينا الشعور و تعكس تجاعيد الزمان المرايا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.