الغربة كفكرة ثقافية..

بقلم:مكارم جميل

في اللحظة التي تخطو فيها أولى خطواتك خارج وطنك، يتسلل إليك شعور غريب، كأنك تحمل عالمًا صغيرًا في قلبك، وعينًا لا ترى إلا ما وراء الأفق البعيد. هذه ليست مجرد مسافة جغرافية تفصل بينك وبين مكانك الأم، بل هي رحلة إلى الداخل، حيث يبدأ الإنسان في إعادة تشكيل ذاته، ومحاولة فهم هويته، بعيدًا عن المكان الذي تربى فيه.
الغربة ليست مجرد تغيّر في المكان، بل هي حالة ثقافية عميقة، تفرض على المرء إعادة التفكير في كل ما كان يعّده ثابتًا، في تلك اللحظات الأولى من الغربة، قد يتساءل المرء: هل أنا في مكان غريب، أم أنني أصبح غريبًا في داخلي.
عندما يبتعد الإنسان عن وطنه، يواجه صراعاً داخلياً بين الانتماء لثقافة مألوفة، والاندماج في ثقافة جديدة.
يصبح هذا التوتر النفسي بوصلةً تحدد علاقته بالمكان الذي يقطنه، ويخلق حالة من الغربة التي لا تنتهي بالوصول إلى بلد آخر، بل تبدأ من هناك.
في خضم الغربة، تتبلور فرصة للانفتاح على ثقافات مختلفة وتعلم مالم يكن في متناول اليد من قبل، هذا التفاعل مع الآخر، سواء كان عبر تعلم لغات جديدة أو اكتساب معارف مختلفة، يساهم بشكل كبير في بناء شخصية قادرة على التكييف والتطور.
كسودانيين.. في الغربة لا نواجه البعد الجغرافي فقط، بل أيضاً الفقد العاطفي لثقافتنا السودانية الأصيلة، عاداتها، هندستها، طعامها وشرابها، وحتى أساليبنا اليومية في الحياة، نترك خلفنا أصوات الشارع، وطقوس الشاي، وروح الجماعة التي تميزنا، وغير ذلك الكثير، وفي كل مرة نتحدث فيها عن بلادنا، تقشعر أبداننا شوقًا وحنينًا، الحنين الذي لا نستطيع أن نملأه إلا بالعودة.
في نهاية المطاف، تعود الغربة على الرغم من صعوبتها لتكون جزءًا من تشكيل هويتنا الثقافية، هي ليست مجرد رحلة عابرة، بل تجربة تؤثر على نظرتنا لأنفسنا والعالم من حولنا، يمكن أن تكون مسارًا لاكتشاف الذات والتواصل مع الثقافة الأصلية بطرق جديدة، أو حتى التأمل في التغيير الذي حدث بسببها،
قد لا يعود المغترب كما كان، لكنه يعود إلى نفسه بصورة أخرى، أكثر عمقا وتفهما.

2 تعليقات
  1. غير معروف يقول

    صدقتي يا صديقتي ..

  2. سليمان الجمري يقول

    ما أضيق الأرض التي لا ارض فيها للحنين الي احد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.