اعلان ماس فيتالس

عروة الصادق يكتب.. سودانٌ يتنفّس الألم ولكنه يزرع الأمل

● بلدي في جماله لا يضاهيه وطن لذلك لم أغادره رغم أوجاعه، ففيه لا تُشبه أزمته أي أزمة، ولا تُشبه مأساته أي مأساة؛ فهنا لا تكفي الكلمات ولا تكفي الأرقام، هنا الخرائط باهتة، والنشرات الإخبارية كاذبة، والخطابات الدولية باردة، بينما الحقيقة تسخن حتى تحرق أصابع من يلمسها.

هنا في أم درمان “البقعة”، لا تحتاج لتقريرٍ صحي لتدرك أن الكوليرا تلتهم الأرواح، يكفي أن تسمع صوت الشوارع: بكاء الأمهات، صمت الأطفال، صفير الريح بين جدران المستشفيات المنهارة، 500 حالة؟ لا، بل 500 قصة، كل واحدة منها تستحق أن تُدوَّن في سفرٍ مستقل، 1,500 وفاة؟ لا، بل 1,500 جنازة، لكل واحدة أمٌّ تبكيها، ولكل واحدة اسم محفور على قلب عاشق، بل هناك أم لم تجد من تبكيه ولا ابنه لتبكي أمها لأن السيدة الكريمة حاجة منيرة وبنتها كوثر انتقلتا إلى الرفيق الأعلى بفارق ساعات وأنا أكتب هذا المقال عليهن وعلى الموتى جميعا الرحمة والمغفرة وصادق التعازي للأسر المكلومة.

لم يكن يخطر ببال أحد أن يتحول الماء، هذا الرمز الأزلي للحياة، إلى قاتل، لكن في أم درمان، الماء الملوث ليس فقط ناقلاً للكوليرا، بل حَكَمٌ يُقرر من يعيش ومن يموت، لانهيار البنية التحتية الصحية جعل المستشفيات عاجزة عن استقبال المزيد، فيما يُحاصر الأطباء بين قلة الموارد وخطر العدوى، وليس هناك بطولات خارقة، فقط بشر يُحاولون إنقاذ بشر، وسط زحف وباء لا يرحم، ومتطوعون رغم فداحة الأمر يحاولون استخلاص بعض حياة لأموات محتملين.

وفي أحياء الشمال، أُغلقت المتاجر، خاف الجميع من الجميع، الطائرات المسيّرة تُحلّق فوق محطات الكهرباء، فتقصف، فتغرق المدينة في ظلام لا يُسمع فيه سوى أنين المرضى، اليوم فقط عادا الكهرباء ونعم بعض المرضى في المستشفيات ببصيص ضوء لإجراء فحوصات أو عمليات أو حتى تشغيل أجهزة عناية.

وفي كردفان تتراى النساء اللائي لا ينهزمن؛ ففي كردفان النساء هنّ عنوان القصة زوجات النزوح، اللاجئات داخل وطنهن، أمهات يُطاردهن الجفاف والجوع والخوف.

47,000 مشرَّد: رقم بارد لا يُخبرك شيئاً.

لكن إذا وقفتَ أمام واحدة منهن، سترى في عينيها حريقاً لا يُخمد؛ امرأة تسير حافية في العراء، لا تطلب إلا شيئاً بسيطاً: قطرة ماء نظيفة، قطعة خبز لطفلها، مكان آمن تضع فيه رأسها ليلاً دون أن تسمع صفير الرصاص؛ وقد فجعن وفزعن بكارثة الحمادي والدبيبات التي لم تميز بين طفل وكهل بين مسلح وأعزل.

أما النهود والخوي وغبيش وود بنده وغيرها حين يختلط عرق البشر بأنين المواشي ففي تلك المدن والأرياف والقرى المحيطة بها، الحرب ليست فقط بين البشر، بل بين البشر والحيوان والطبيعة، الآبار تجف، والمواشي تُصارع الموت عطشاً، والسكان يُطاردون السراب والمحاصيل تنهب حتى تلك التي في “المطامير”، والجفاف هنا لا يعني فقط نقص الماء، بل انهيار اقتصاد الريف، انهيار معنى الحياة نفسه، فحين تموت الماشية، يموت كل شيء: الطعام، التجارة، التقاليد، وحتى الهوية.

صيف 2025: زمنٌ لا يُشبه سواه هذه السنة التي ندعو أن تستحيل عاماً بخول الله في يغاث الناس وفيه يعصرون ويعصمون دماؤهم؛ ومع اقتراب الصيف، ترتفع درجات الحرارة لحوالي 50 درجة، وتنخفض كميات المياه في المصادر السطحبة الحفاير والرهود والخيران الموسمية، ويزداد انتشار الأمراض، وتُشدِّد المجاعة قبضتها، إنها دورة جحيم لا تنتهي: حرارة تُشعل العطش، العطش يُشعل الأمراض، الأمراض تُشعل الموت، والموت يُشعل اليأس.

ولكن… هل انتهت القصة؟

لا.

السودان، رغم كل شيء، لا يموت، لأن هناك في كل ركن، أناسٌ يُصرّون على البقاء، وهناك مبادرات شعبية، أطباء متطوعون، نساء يُؤسسن مطابخ جماعية، شباب لجان طواريء ينقلون المياه فوق الدراجات والدواب، رجال يُحيون الأراضي الميتة بأظافرهم.

هؤلاء هم قلب السودان النابض، فلا الأمم المتحدة، ولا تقارير الإعلام، ولا حتى المقالات الطويلة مثلي، فهؤلاء الذين لا يُذكرون في الأخبار، ولا يُكتب عنهم في الكتب، هم من يُمسكون بحبال الحياة حين يُوشك كل شيء على السقوط.

دعوة مفتوحة لمن ألقى السمع وهو شهيد؟

العالم يجب ألا يكتفي بالشفقة والتنديد، لا تكفي عبارات “نُبدي قلقنا”، ولا مؤتمرات المانحين، ولا صور الأطفال الجياع على أغلفة المجلات، ولا حتى العقوبات الصورية التي لا تتبعها إجراءات قسرية ترغم المتحاربين على الجنوح للسلم، المطلوب هنا تحركٌ جذري:

وقف القتال فوراً.

ضخ مساعدات غذائية وصحية عاجلة.

إعادة بناء شبكات المياه والصرف الصحي.

حماية النساء والأطفال من العنف والاستغلال.

والأهم: الاعتراف بأن السودان ليس مشكلة عابرة، بل قصة إنسانية تستحق أن تُروى وتُعاش وتُستمع حتى النهاية، وإلا ستنفجر في وجه هذا العالم المجنون وتحرقه من طنجة إلى جاكرتا ومن البحر للبحر ومن الصحراء الى الصحراء.

ختامًا : وطني السودان اليوم يقف عند مفترق طرق: إما أن يُبتلع في ظلام الأزمات المتراكمة، أو يُشرق منه فجرٌ جديد، لا تصنعه الحكومات ولا القوى العظمى، بل يصنعه أهله، حين يجدون من يُساعدهم بحق، لا من يُراقبهم عن بُعد.

عزيزي القارئ، أنت هنا الآن، تقرأ هذه الكلمات، لا تظن أن الأمر بعيد عنك، السودان ليس هنا فقط، بل هنا، في ضميرك، كل مرة تُدير فيها وجهك عن خبر، كل مرة تقول فيها “هذه مشكلتهم”، تكون جزءاً من صمت العالم، لكن كل مرة تقول فيها: “أنا أرى”، “أنا أسمع”، “أنا سأفعل”، تفتح باباً صغيراً للنور.

فلتكن أنت هذا الباب أو سيطرق طارق بشر لا قدر الله بابكم وتكون من القوم المهلكين المعدمين النازحين والعياذ بالله.

 

#نحو_الغد

#رؤية_جيل

مقال أسبوعي : 26 مايو 2025

orwaalsadig@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.