عروة الصادق يكتب.. السلام الزائف – تفكيك وهم التسويات في ظل تحالف العسكر والإسلاميين

● جميعنا يترقب إحلال سلام منتظر في السودان، ولكن في زمن تكاثفت فيه المآسي على جسد المنطقة، تتبدى الحقيقة الجارحة بأن ما يُسمى بـ”السلام” في صيغته الراهنة ليس إلا تسوية زائفة، ومصطلحًا يُستخدم لتكريس الأمر الواقع لا تغييره، ولم تعد المسألة تتعلق بنهاية المعارك المسلحة فحسب، بل بكيفية بناء سلامٍ عادلٍ ومستدامٍ يعيد للناس كرامتهم، ويعيد للدولة الوطنية معناها المغيّب، ولكن ما يُعرض علينا في مؤتمرات التفاوض، وما يُروَّج له في بيانات الوسطاء، ليس سوى إعادة إنتاج للهزيمة في هيئة انتصارٍ دبلوماسي.

– السلام الزائف هو ذلك الذي يُطبخ في الغرف المغلقة، وتُستبعد عنه القوى الحية، ويُدار بمعايير إقليمية ودولية لا تعترف بإرادة الضحايا، وإنه السلام الذي يكرّس السلاح كوسيلة للوصول إلى الحكم، لا كأداة للدفاع عن الكرامة، بل إنه سلام تُقسم فيه الكعكة بين العسكر والإسلاميين، تحت سمع وبصر من يدّعون الوساطة بينما يمولون أحد أطراف الحرب ويمهدون له السيطرة عبر بوابة الشرعية الشكلية.

– كما قال المفكر والخبير العالمي جيفري ساكس في شهادته المرعبة، فإن معظم حروب المنطقة – من العراق إلى سوريا، ومن السودان إلى ليبيا – لم تكن حتمية، بل اختيارات إمبريالية صُنعت في واشنطن وتل أبيب، وفي شهادته المدوية، أكد ساكس أن الحرب في سوريا مثلًا لم تبدأ بقمع النظام، بل بقرار أمريكي – إسرائيلي منذ عام 2011م – لإسقاط الدولة السورية، تنفيذًا لمخطط إقليمي هدفه تفتيت المنطقة عبر “عملية تغيير الأنظمة” التي تبنتها الـCIA بتحالف عضوي مع إسرائيل، وهو ما يثبت صحة ما قاله آفي دختر مسؤول الموساد الذي كشف خطة تقسيم المنطقة بما فيها السودان إلى دويلات هشة ضعيفة مضطربة ومتحاربة، إن هذا الاعتراف الخطير لا يدع مجالًا للشك في أن السلام الحقيقي لا يُدار من ذات العواصم التي أشعلت الحروب أصلًا، وأن كل مبادرة سلام لا تفكك منظومة العنف المعولم ليست سوى جزء من لعبة إدارة الأزمة لا حلّها، وما نراه من شد للأطراف في السودان هو تنفيذ لتلك الخطة بأدي المتقاتلين الذين تحولوا لمخالب قط.

– في السودان لا يمكن إغفال الدور التدميري الذي لعبته التيارات الإسلامية في إشعال الحرائق، وتمكين العسكر، وتفخيخ الدولة، وهذه التيارات التي ارتبطت عضويًا بالمشروع الأمريكي منذ “الجهاد في أفغانستان”، وارتدت قناع المقاومة حينًا والتحالف حينًا، كانت وما تزال جسورًا لعبور الخراب، ففي حين تخوض المنطقة معركة من أجل تفكيك تحالف الاستبداد العسكري مع الرأسمال السياسي، تتقدم الحركات الإسلامية وكتائبها المتطرفة كحارس مخلص للمصالح الغربية والإقليمية، تتواطأ مع الأجهزة السرية وتعيد إنتاج ذات الخطاب الذي خدم الإمبريالية تحت لافتة الهوية والشرع باسم مشروع “إسلامعروبي” متطرف وعنيف، وفي السودان تحالف الإسلاميون مع العسكر في أسوأ مشروع هيمنة، مزّق الدولة واستباح الدماء واحتكر الثروات، ثم تسللوا مرة أخرى إلى قلب السلطة بذريعة مقاومة “التمرد” وحـ.ـرب “الكرامة”، بينما هم حلفاء كل نقيض للتحول الديمقراطي.

– الحديث عن السلام في ظل هذه المعادلة هو تضليل أخلاقي، ولا يمكن لأي رئيس وزراء، أكان كامل إدريس أو غيره، أن ينجز تحولًا حقيقيًا وهو محاصر بشبكة من الفاعلين الذين لا يرون في السلام سوى هدنة لتصفية خصومهم، وإن الحل لا يكمن في تغيير الأشخاص، بل في تغيير قواعد اللعبة نفسها، ولا يكفي تعيين المدنيين في الواجهات، ما دامت الصلاحيات بيد العسكر، وما دام الإسلاميون يتحكمون في القضاء والإعلام والمجتمع الدعوي، ويخوضون المعارك الثقافية لتمزيق الصف الوطني من الداخل.

– أي سلام لا يبدأ بتفكيك التحالف القائم بين الجناح العسكري والتيار الإسلامي هو مشروع لإعادة التمكين، وأي سلام لا يُكتب بلغة الضحايا، ولا يُنفذ بأدوات وطنية مستقلة، ولا يُراقب من قوى مدنية حية، هو مجرد ترميم لخراب قديم، وإننا بحاجة إلى سلام لا يتعاطى مع الجغرافيا بعيون المانحين، بل بوعي النازحين، سلام يداوي الجراح لا يفاوض عليها، سلام يعترف بالحق في الثورة، لا يختزلها في لجان تفاوضية تصوغها البيروقراطيات المهجّنة.

– لقد آن الأوان لحسم موقفنا من أدوات السلام الزائف، ولتسمية الأشياء بأسمائها. هذه المنطقة – كما قال ساكس – عاشت قرنًا من الإذلال على يد الإمبراطوريات، وعقودًا من التلاعب بمصيرها عبر وكلاء محليين يرفعون شعارات السيادة ويقايضون بها على موائد الخارج، ولن يكون هناك سلام دون تفكيك هذه الحلقة الجهنمية، ولا حل دون مساءلة، ولا عدالة دون تفكيك الدولة العميقة، ولا مستقبل دون أن نستعيد نحن وحدنا حق تقرير المصير، لا برضا العسكر، ولا بفتوى من التيارات التي قتلت حلم الناس بالدين والدنيا معًا.

● ختامًا: إذا أردنا مستقبلًا مختلفًا، فعلينا أن نكسر دائرة الوهم، وأن نعلن بوضوح: لا سلام مع القتلة، لا صلح مع شبكات النهب، لا حل وسط في مواجهة مشروع الخراب؛ السلام الذي لا يوقّع عليه الشعب لا يمثله، والسلام الذي يُفرض من فوق هو استعمار جديد، مهما تغيّرت الأسماء والرايات.

ـــــــ
مقال أسبوعي – موقع الغد السوداني

الثلاثاء: 20|5|2025م

📧 orwaalsadig@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.