بعد عام على بداية الحرب الأهلية… لماذا لم يستدع الجيش السوداني قوات الاحتياط؟
علاء الدين موسى ـ صحفي سوداني
حين اندلعت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في 15 نيسان/ أبريل 2023، كان التفوق العددي لصالح الدعم السريع الذي دفع بمعظم قواته لمحاصرة مقرات ومعسكرات الجيش في الخرطوم ودارفور ومناطق أخرى حيوية.
رغم مرور عام على الصراع، واستمرار التفوق العددي لـ”الدعم”، لم يُعلن الجيش عن استدعاء قوات الاحتياط، واكتفى بدعوة غير واضحة للضباط والجنود المتقاعدين المتفرغين وجميع الرجال القادرين على حمل السلاح إلى تسجيل أسمائهم في المقار العسكرية القريبة لهم، بهدف تسليحهم للمشاركة في حفظ الأمن.
وهو ما يطرح عدة تساؤلات حول أسباب عدم توجيه استدعاء رسمي وإلزامي لقوات الاحتياط التي تُقدر بعشرات آلاف الشباب، وطبيعة نظام التجنيد في السودان. وهو ما نسعى للإجابة عنه في تقريرنا.
تحولات العام الأول من الحرب
مع اكتمال العام الأول للصراع، تحوّل الموقف الميداني شيئاً فشيء لصالح الجيش، خاصة بعد التقدم الكبير الذي تحقق له في مدينة أم درمان خلال الأشهر الأخيرة بعدما سيطرت قوات الدعم في بداية الحرب على أجزاء واسعة من البلاد، وأسقطت عدداً من الحاميات والمقار العسكرية التابعة للجيش. اتبع الجيش حينذاك، في المقابل، تكتيك التخندق داخل مقاره والعمل على صد الهجمات المتتالية، خاصة في منطقة القيادة العامة وسلاح المدرعات والإشارة والمهندسين.
على الرغم من وجود قانون متكامل للخدمة العسكرية في السودان، فإنّ التطبيق يُقتصر على مرحلة التدريب الأوّلي في معسكرات التدريب، وهي نفس المرحلة الموجودة في مصر، وتبلغ 45 يوماً في المتوسط
وفي 16 شباط/ فبراير 2024، تمكنت قوات وادي سيدنا، بمحلية كرري شمال أم درمان، من فكّ حصار الدعم السريع الذي فصلها عن سلاح المهندسين، وأصبح الجيش قادراً على التحرك بأريحية بين شمال وجنوب المدينة. بعد ذلك، استعاد الجيش مبنى الإذاعة والتلفزيون الذي كانت تحرسه قوات الدعم قبل الحرب ثم حوّلته إلى مقرّ قيادة لها.
وفيما تعد الخرطوم، عاصمة البلاد، بمحلياتها السبع، مسرح العمليات الرئيسي، انتشرت قوات الدعم في الولاية وسيطرت على معظمها في الأيام الأولى للحرب. قبل أن يتمكن الجيش من استرداد العديد من المواقع فيها منذ بداية العام الجاري، بعد التزود بأسلحة نوعية خصوصاً المسيرات وانضمام المتطوعين لصفوفه.
وأُجبِرت قوات الدعم السريع على الانسحاب من مواقع كانت تتحصن فيها لأكثر من عشرة أشهر، خاصة منطقة أم درمان القديمة بمحلية أم درمان الكبرى.
حالياً، يتقاسم الجيش والدعم السريع السيطرة على محليات الخرطوم السبع، أم درمان وأمبدة وكرري وشرق النيل وجبل أولياء وبحري والخرطوم الكبرى. وفي الولايات الأخرى، حافظ الجيش على جميع ولايات الشمال والشرق والجنوب (الشمالية، نهر النيل، البحر الأحمر، وكسلا، القضارف، النيل الأزرق، سنار، النيل الأبيض، وولايات كردفان). في حين يسيطر الدعم السريع على ولايات دارفور الخمس عدا مدينة الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور، التي تشهد مناوشات بصورة مستمرة، وولاية الجزيرة التي بدأ الجيش عمليات عسكرية واسعة في الآونة الأخيرة لاستردادها.
تحققت تلك الانتصارات للجيش بعد أشهر من التراجع، وذلك بفضل القوات الرديفة، من منسوبي الجيش والأمن السابقين والمتسنفرين المعروفين باسم “المقاومة الشعبية”. مع ذلك، كان استدعاء الاحتياط كفيلاً بتعويض النقص بقوات عسكرية نظامية، بخلاف المستنفرين والمتطوعين الذين قد يسهل توظيفهم سياسياً.
تخبط العسكرية السودانية
الأمر المؤكد في ما يتعلق بواقع قوات الاحتياط في السودان هو أنّه يخالف ما هو مُتعارف عليه في الدول التي تفرض التجنيد العسكري الإلزامي، والتي تتكون قوات الاحتياط فيها من المُسرّحين من المجندين ومن انتهوا من أداء الخدمة العسكرية الإلزامية.
لاستبيان ذلك، يمكن إجراء مقارنة بسيطة بين قوات الاحتياط في مصر ونظيرتها في السودان، والتي تستوي نظراً للاعتبارات التاريخية المشتركة بما فيها أنّ الجيش السوداني الحديث وُلد من رحم الجيش المصري. كانت البداية باستيعاب السودانيين كضباط وجنود في الجيش المصري، منذ ضمّ السودان إلى مصر في عهد محمد علي باشا، حتى عام 1925 الذي تأسست فيه “قوة دفاع السودان” كنواة لجيش السودان الحديث، إبان الحكم الثنائي (المصري-البريطاني).
“خدمتنا الإلزامية كانت عبارة عن جبايات لا أكثر، ولم نكن جادين في تحقيق غاياتها المطلوبة عسكرياً أو في تعزيز الحس الوطني كما في بعض البلاد مثل الجارة مصر وحتى إسرائيل”… عن نظام التجنيد في السودان الذي لم يسعف الجيش في مواجهة الدعم السريع
لدى مصر قوانين ولوائح تنظم عملية التجنيد الإلزامي للجنود وضباط الاحتياط، وتُطبق على جميع المواطنين الذكور الذين بلغوا سن الثامنة عشرة، وفق نظم معروفة، دون استثناءات خارجة عن المعمول به في الأنظمة المشابهة عالمياً.
الحال على النقيض في السودان. يخضع تنظيم التجنيد الإلزامي لقانون “الخدمة الوطنية” لسنة 1992، وتعديلاته لعام 2013 والتي كثيراً ما أشارت إليها صحف سودانية، دون أنّ يُعثر على نصّ لها، وهو ما أكده تقرير أممي في العام 2016.
وبحسب قانون 1992، “يخضع لفرض الخدمة كل سوداني أكمل الثامنة عشر من عمره ولم يتجاوز الثالثة والثلاثين”. وحددت المادة (8) كيفية أداء الخدمة، في أحد المواقع التالية: قوات الشعب المسلحة، قوات الشرطة والقوات النظامية الأخرى، المصالح والهيئات والوحدات الحكومية.
أما المادة (9)، فتنص على أنّ “مدة الخدمة أربعة وعشرين شهراً. وتخفض لخريجي الجامعات والمعاهد العليا أو ما يعادلها إلى اثنى عشر شهراً، كما تخفض تلمن أكملوا المدارس الثانوية أو ما يعادلها إلى ثمانية عشر شهراً”.
لكن التطبيق يختلف عن نصّ القانون، كما أنّ الإجراءات التي تنظمها اللوائح للتعامل مع المُخاطبين بالتجنيد الإلزامي تشهد تخبّطاً كبيراً. على سبيل المثال، يمكن الحصول على إعفاء من الخدمة نظير دفع مقابل مالي، وهناك تخبط في ربط استخراج الأوراق الرسمية بأداء الخدمة الإلزامية، وأحياناً تقصر الخدمة العسكرية لخريجي الجامعات على 45 يوماً فقط في مخالفة واضحة للقانون.
“جباية لا أكثر”
وعن نظام التجنيد الإلزامي في الجيش السوداني، تحدث مصدر عسكري إلى رصيف22، مشترطاً حجب اسمه، قائلاً إنّ “خدمتنا الإلزامية كانت عبارة عن جبايات لا أكثر، ولم نكن جادين في تحقيق غاياتها المطلوبة عسكرياً أو في تعزيز الحس الوطني كما في بعض البلاد مثل الجارة مصر وحتى إسرائيل”.
وأضاف: “منذ تشريع قانونها، كان يجب تنظيمها بحيث تكون فترة التدريب كافية جداً لا تقل عن تدريب الفرد بالقوات المسلحة، على أنّ ينتسب المجندون إلى صفوف أفرع ووحدات الجيش كافة، لمزيد من التدريب التخصصى، ولتحقيق ارتباط هؤلاء المجندين مباشرة بهذه الوحدات العاملة حتى الإعفاء من الاحتياط”.
يظهر من ذلك أنّه على الرغم من وجود قانون متكامل للخدمة العسكرية في السودان، فإنّ التطبيق يُقتصر على مرحلة التدريب الأوّلي في معسكرات التدريب، وهي نفس المرحلة الموجودة في مصر، وتبلغ 45 يوماً في المتوسط.
والفرق أنّ المجنّد يُلحق، في مصر، بعد ذلك بأحد الأسلحة الرئيسية للقوات المسلحة، ثم يُوزّع على إحدى الوحدات العسكرية التابعة لسلاحه، ثم يُحال لقوات الاحتياط حتى سنٍ محددة، ويُجرى الاستدعاء من خلال إدارة مركزية على أنّ يلتحق الفرد بوحدته مباشرةً، ما يضمن دعم الوحدات بعناصر كافية وبشكل دوري لتكون في أتم جاهزيتها القتالية.
يتابع المصدر العسكري السوداني، أنّ مجندي الخدمة الوطنية لم يتلقوا التدريب الكافي في دورات الاسلحة المضادة للدروع والدبابات والقنص وغيرها من دورات المشاة. مضيفاً أنّه منذ عهد حكومات الإنقاذ (1989-2020) لم تكن هناك جدية في تنفيذ الخدمة الوطنية، بل عبارة عن “جباية ومنسقين وعربات فخمة وسلم للتدرج السياسي لا غير”.
الجدير بالذكر أنّ وزير الدفاع السابق اشتكى في العام 2014 من عزوف الشباب عن الالتحاق بالتجنيد. وتسبب ذلك في نقص قوات المشاة في الجيش السوداني مقابل تفوق قوات الدعم السريع التي كان تشكل العمود الفقري للجيش في حربه ضد الحركات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
ووفق تقرير موقع “Global fire”، يبلغ تعداد الجيش السوداني 19400 ألف مقاتل، بعدد 92 ألفاً في القوة العاملة، و85 ألفاً من قوات الاحتياط، 17 ألفاً ينتظمون في قوات شبه عسكرية.
منذ تكوين قوة دفاع السودان عام 1925، شاركت جميع القبائل في الجيش، ولكن في العقود الأخيرة أصبح الانضمام للجيش حكراً على مكونات معينة، بسبب تدني الرواتب والتمييز الذي يمارسه قادة القوات المسلحة خاصة في عهد الانقاذ الذي احتكر الرتب العليا لأبناء التنظيمات الإسلامية. وهو ما خلق شعوراً بالتمييز بين أبناء الوطن الواحد
مصدر عسكري ثان، فضّل عدم ذكر اسمه، قال لرصيف22 إنّ “الجيش أوقف التجنيد، واستبدله بالاعتماد على قوات الدعم السريع التي خرّجت عشرات الآلاف من الجنود لمدة أعوام، حتى وصلت في أقل من ثلاث سنوات لأكثر من 100 ألف مقاتل”. يسري على قوات الدعم السريع مواد الفصل الرابع من الباب الأول لقانون القوات المسلحة لعام 2007 والخاصة بالتجنيد والتعيين والاختيار والتأهيل، وفق قانون تلك القوات لعام 2017 في المادة (12).
وتابع المصدر بأنّه منذ تكوين قوة دفاع السودان عام 1925، شاركت جميع القبائل في الجيش، ولكن في العقود الأخيرة أصبح الانضمام للجيش حكراً على مكونات معينة، بسبب تدني الرواتب والتمييز الذي يمارسه قادة القوات المسلحة خاصة في عهد الانقاذ الذي احتكر الرتب العليا لأبناء التنظيمات الإسلامية. وبحسبه، تشكل قومية النوبة أكثر من 50% من عدد الجنود، متفوقة على جميع قبائل في السودان التي لا يميل أغلبها للعمل في الجندية.
بشكل عام، تعتبر تلك القضية واحدة من التحديات التي تواجه الجيش السوداني، والتي تخلق شعوراً بالتمييز بين أبناء الوطن الواحد. ذلك التمييز في التجنيد والالتحاق بالجيش ليس جديداً على السودان الذي يشهد تمييزاً في التنمية والسلطة بين مناطق البلاد.
لماذا لم يُستدع الاحتياط؟
إلى ذلك، أوضح الموظف في إدارة الخدمة الوطنية، سامي مختار، أنّ “الآلية التي يتم بها استدعاء المجندين تأثرت بالحرب وأصبحت غير موجودة بسبب احتلال مبنى الإدارة من قبل قوات الدعم السريع، وهذا المبنى موجود به ‘داتا سنتر’ الخدمة الوطنية التي تحوي أسماء المطلوبين للخدمة العسكرية”. وأضاف لرصيف22 أنّ على الحكومة استعادت تلك البيانات كما فعلت في السجل المدني والجوازات حتى تستفيد من الرصيد البشري الموجود لإعمار ما دمرته الحرب.
ووفق حديثه، كانت الآلية المُتبعة في استدعاء الأفراد للخدمة الوطنية تحدث عبر الرسائل النصية والإعلان عبر وسائل الإعلام المختلفة، منوهاً بأنّ آخر معسكر للتجنيد كان في عام 2019 قبل سقوط نظام الرئيس المعزول عمر البشير.
تحويل الخدمة الوطنية إلى مرحلة ما بعد الشهادة الجامعية بعد أنّ كانت بعد الشهادة الثانوية أدى إلى تقليص عدد المواطنين المتاحين لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية.
كما لفت مختار إلى أنّ تحويل الخدمة الوطنية إلى مرحلة ما بعد الشهادة الجامعية بعد أنّ كانت بعد الشهادة الثانوية أدى إلى تقليص عدد المواطنين المتاحين لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية، فضلاً عن إسناد مهام مدنية لمن يُفترض بهم أداء الخدمة العسكرية منذ توقف حرب دارفور.
ويمكن إيجاز أسباب عدم استدعاء قوات الاحتياط في: الافتقار للبيانات والإمكانات لتفعيل الاستدعاء، والتوقعات الكبيرة لعدم الاستجابة في ظل ما تعانيه البلاد من حرب وفوضى، وافتقار تلك القوات لما يميزها عن المقاومة الشعبية فكلاهما قوات غير متخصصة وغير مدربة بشكلٍ كافٍ، فضلاً عن افتقار الجيش لصورة المؤسسة الوطنية نسبياً كحال نظرائه في دول أخرى ما يُصعب الاستجابة لدعوات الاستدعاء.
بدوره، اعتبر الخبير العسكري خالد محمد عبيد الله أن “المقاومة الشعبية” تنتظم كقوات مساندة لعمليات الجيش والحكم المدني، ومن هنا تظهر أهمية وجود خدمة وطنية بالبلاد لتوفير الأفراد المطلوبين لمساندة الجيش في الحرب، مضيفاً أنّ قضية المساواة في توزيع الفرص للالتحاق بالجيش تخضع للجان القبول التي تحدد استحقاق التنافس بين المناطق والأقاليم ونسبة الشهادة السودانية، وهذه معايير قد تصيب وقد تخيب، على حد قوله.
في الأثناء، قال لرصيف22 السياسي في حزب الأمة محمد المشرف إنّ “التجنيد على أسس المساواة له دور في تعزيز المواطنة، لأن الخدمة الوطنية لا تفرق بين أبناء الواحد حيث يدخلها الغنى والفقير ولا يوجد فيها استثناء”، مشدداً على ضرورة أنّ تكون الخدمة الوطنية النواة لتشكيل الجيش الوطني من خلال التمثيل العادل لكل أفراد ومكونات الشعب السوداني.
فائدة أخرى اتفق عليها المعلقون من تطبيق الخدمة الوطنية وفق القانون، وهي الاستفادة من الشباب في إعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب. على الرغم من أهمية تلك القضية فإنّها لا تأخذ الحيز المناسب من النقاش بين القوى السياسية والعسكرية التي تصارعت كثيراً في المرحلة الانتقالية، التي بدأت عام 2020، حول إصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية، ودمج القوات شبه النظامية وقوات حركات التمرد (الكفاح) المسلح.