الخرطوم وتل أبيب.. علاقة “خبيثة” تفسد السلة الغذائية السودانية
ينظر كثير من السودانيين إلى العلاقة بين تل أبيب والخرطوم بأنها علاقة “خبيثة” تهدف إلى تفكيك البنية التحتية في القرن الأفريقي. ويؤكد البعض أن إصرار الجانب الإسرائيلي “المدعوم أميركياً” على تطبيع علاقته مع الخرطوم، يهدف إلى السيطرة على الموارد المتوافرة بالمنطقة، عبر دخولها إلى السودان بحجة تنمية اقتصاده المنهك أو إدماجه في العالم مرة أخرى. كل ذلك في وقت يمكن أن تتجه الخرطوم إلى دول كبرى، لتحقيق منافع متبادلة دون اللجوء إلى عملية التطبيع.
في يناير/ كانون الثاني من عام 2021 أشارت آخر التقديرات الإسرائيلية إلى أن العلاقات مع السودان من شأنها أن تساهم في دعم الاقتصاد الإسرائيلي. حيث قال موقع “غولوبس” الإسرائيلي، المتخصص في الاقتصاد، في تقرير، إن “أرض السودان الخصبة ستؤتي أكلها بشكل مضاعف عند دخول التكنولوجيا الزراعية الإسرائيلية إليها، توجد فرصة اقتصادية كبيرة هناك، فالتكنولوجيا الإسرائيلية المتطورة المتعلقة بالزراعة وترشيد استهلاك المياه ثبتت نجاعتها في أماكن كثيرة، مثل مصر ودول أفريقية مختلفة”.
ويوضح الموقع أن “السودان لا يزال في بداية التطور التكنولوجي، وهذا يشكل فرصة كبيرة للشركات الإسرائيلية لدخول سوق الخرطوم التي تنتظر مثل هذا التقدم، ما يفسح مجالاً لإسرائيل بالتقدم”. وترى القناة 12 الإسرائيلية أن “السودان سيكون عبارة عن أرض خصبة للمنتجات الإسرائيلية المختلفة، كما سيساهم التطبيع مع الخرطوم في دفع الاقتصاد الإسرائيلي، من خلال السياحة المتبادلة، وكذلك جذب السودانيين إلى السياحة الطبية في إسرائيل”.
وتسابق تل أبيب الزمن للهيمنة على مقدرات الخرطوم، وهو ما تجلى بزيارة وزير المخابرات الإسرائيلي، إيلي كوهين، للسودان، مؤخراً، والذي تحدث عن الاستثمار بالقطاعات التجارية والصناعية والزراعية، وإنشاء مصنع للأسمدة والكيماويات بالخرطوم، ليكون أول مصنع إسرائيلي يقام بدولة عربية أو إسلامية.
توغل إسرائيلي
وتجلت الخطوة الإسرائيلية الأولى، لوضع موطئ قدم بالسودان، بإعلان شركة داشان لصناعة الأسمدة والكيماويات الزراعية استعدادها لتمويل كامل واستثمار بنسبة 100% لإنشاء مصنع للأسمدة بالخرطوم.
وبافتراض حدوث توغل إسرائيلي بالسودان اقتصادياً وتجارياً، فإن الخرطوم من وجهة نظر تل أبيب، وفق حديث الصحافي الإسرائيلي المختص بالاقتصاد داني زاكين مع القناة الثانية الإسرائيلية “قصة مختلفة تماماً عن دول الخليج. فالصناعة الرئيسية في السودان، هي الزراعة في حوض النيل الذي يمر عبر السودان، وعلى طول الطريق ذي الاتجاهين من إثيوبيا وكينيا في الجنوب إلى مصر، توجد مناطق زراعية ضخمة، إذ من المحتمل أن تكون المياه والتربة الخصبة القادمة من الجبال الإثيوبية حظيرة حبوب وسلة غذائية في أفريقيا تتحكم بها إسرائيل”.
وبحسب الصحافي الإسرائيلي، فإن “وجود تل أبيب سينافس أي مبادرات للسعودية، وأي محاولات لتركيا للاستثمار في السودان، لتكون الهيمنة التجارية والاقتصادية في المكان مستقبلاً لإسرائيل”.
وشرح المدير التنفيذي لشركة الكيماويات الزراعية التابعة لمجموعة “سي تي سي” الاقتصادية بالسودان، خالد أمين عبد اللطيف في حديث مع صحيفة محلية، أن إسرائيل تورطت سابقاً في تسرب أسمدة غير شرعية في اليمن، اتضح بعد الفحص أنها مسرطنة، وذات تأثير عال على الجهاز العصبي والكلى والكبد.
ورأى أن إسرائيل ستتجه إلى الزراعة بالسودان في خطين، أولهما محاولة توقيع عقود طويلة الأجل لاستصلاح واستغلال الأراضي بشروط جزائية صعبة لتشكل ضغطاً على الأمن القومي المصري جنوباً، وربما تقحم نفسها شريكاً رابعاً في قضية سد النهضة، وأن يكون لها مستقبلاً حصة من مياه النيل.
وقال إن تجارب الدول المُطبعة مع إسرائيل غير مبشرة لجهة أن تل أبيب في مصر قضت على سلالات القطن المصري بإدخالها القطن المحور، كما استصلحت الأراضي وروتها بمياه الصرف الصحي، واستخدمت أسمدة إسرائيلية ضارة. ونصح حكومة الخرطوم بأن تتدارك ما يعتبره مؤشراً خطيراً يتعلق بنوايا إسرائيل إنشاء مصنع للأسمدة بالسودان، في وقت لا تصدر تقنياتها الزراعية التي مكنتها من الاكتفاء الذاتي من أراض زراعية محدودة.
هروب إلى الأمام
واعتبر الاقتصادي عادل خلف الله لـ”العربي الجديد” أن اللجوء إلى إسرائيل لحل الأزمات الاقتصادية تفكير هروبي استسلامي من مواجهة الأسباب الحقيقية لأزمة الاقتصاد البعيدة والقريبة، واستسلام لسياسات البحث عن أسهل الحلول. كما أن ذلك يتناقض مع القوانين الصادرة من الجمعية العامة للأمم المتحدة، خاصة حق العودة.
فالدول التي لا تمتلك رؤية واضحة للثمن الذي تطلبه لن تحصد سوى السراب، لأن إسرائيل مع أنها دولة متقدمة علمياً، خاصة في الزراعة، إلا أنها نادراً ما تكون سخية في تعاملاتها مع الآخرين، ولهذا كل الدول التي تقاربت وطبعت مع إسرائيل قبضت الثمن من أميركا وليس من إسرائيل، ومن المهم دوماً التخطيط العلمي السليم لكل علاقاتنا الخارجية بما يكفل الاستفادة القصوى منها.
وقال المحلل الاقتصادي أحمد خليل لـ “العربي الجديد” إن السودان الذي لديه إمكانيات كبيرة، خاصة في الأراضي، وخبرات في مجال الزراعة، لا يحتاج لأن يدخل في علاقة اقتصادية بأي شكل من الأشكال مع الكيان الصهيوني.
وأضاف: “ستكون “علاقة خبيثة” إذا نظرنا إلى علاقته مع مصر فإنها لم تستفد شيئاً منذ اتفاق كامب ديفيد، بل بالعكس عملت تل أبيب على تدمير زراعة القطن في مصر”. وقال خليل إن الأفضل للخرطوم أن تتجه إلى الدول الكبرى لتطوير بذور الأسمدة والآليات الزراعية، ولكن مجرد فتح القنوات للشركات الإسرائيلية بحجة الاستفادة من التقنية في الري المحوري فإن السودان سيكون خاسراً وإسرائيل هي المستفيدة.
بدوره، قال الباحث الاقتصادي هيثم فتحي لـ “العربي الجديد” إن الانشقاقات الحالية في الساحة السياسية السودانية وأزمة الهوية السياسية مع أزمة الدولة والنظام السياسي في السودان كلها عوامل أدت إلى أن تستغل لإيجاد منافذ للتطبيع. “ففي تقديري الاقتصاد الإسرائيلي لا يمتلك أية ميزة نسبية مغرية، تجعله محط أنظار الاقتصادات الأخرى لبناء علاقات مبنية على تبادل المنفعة بينهما، ولكن يمكن أن تكون هناك أهداف أخرى غير معلنة تستطيع من خلالها إسرائيل التأثير على السودان”.
وتابع: “كثيرون يحاولون التسويق بأن إسرائيل هي المفتاح للوصول إلى قلب الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والغرب، وصحيح أن الغرب حريص على إسرائيل، ولكن لكل دولة مصالحها الخاصة، وتأخذ أولوياتها الوطنية”.
وأضاف فتحي أن إسرائيل لديها صناعات إلكترونية دقيقة وبرامج حاسوب يمكن أن تجد طريقها للأسواق السودانية في ظل مناخ تطبيعي، بينما لا توجد صناعات سودانية بالمقابل لتشق طريقها للسوق الإسرائيلي الصغير نسبياً، وهذا سيؤدي إلى حالة من العجز التجاري لصالح إسرائيل.
واعتبر أن ما تحتاجه الأسواق السودانية، سواء كان من إلكترونيات أو برامج حاسوب أو تكنولوجيا زراعية هو متوفر وبشكل واسع في الأسواق الألمانية واليابانية والصينية، وكثير من دول شرق آسيا، وبإمكان السودان الحصول على ما يحتاجه من هذه التكنولوجيا من دون دفع أي ثمن سياسي يذكر.
ولفت إلى أن السودان بلد استراتيجي لإسرائيل، لأنه يرتبط بين مصر، ودولة جنوب السودان وليبيا وإريتريا وإثيوبيا والبحر الأحمر، إضافة لثروات السودان المتعددة ما يعطي لإسرائيل دفعة قوية في توسيع حضورها داخل السودان، لكي تجنى منافع اقتصادية، وكذلك مزاحمة قوى إقليمية ودولية تتسابق لكسب النفوذ في السودان.
الترويج لمشروع التطبيع
وقال الخبير الاقتصادي الفاتح عثمان لـ “العربي الجديد” إن هناك حاجة إلى التقنيات الحديثة في السودان، إلا أن الوقت ما زال مبكراً على أي تعامل اقتصادي مع إسرائيل، لأن السودان في مرحلة انتقالية مجهولة، وبالتالي كل ما يثار حالياً عن شراكات اقتصادية بين السودان وإسرائيل لا يوجد ما يسنده على أرض الواقع، إذ لا يوجد أحد يضمن وجوده في الحكم.
أما المحلل السياسي النور أحمد النور، فقال لـ “العربي الجديد” إن التعاون السوداني الإسرائيلي لم يتجاوز محطة التنسيق الأمني والاستخباراتي المتعلق بقضايا الإرهاب والأوضاع في شرق أفريقيا، رغم إقرار قانون المقاطعة، وإلى الآن لا توجد اتفاقيات في أي من المجالات.
وأكد أن تجارب إسرائيل في أفريقيا فاشلة تماماً، كما أنها شحيحة في التعامل مع أفريقيا، حيث إنها، أي “تل أبيب”، تريد أن تكون المصلحة من جانب واحد، ولا أعتقد السودان سوف يستفيد، كما أنها ليست مغرية.
وشرح المحلل السياسي خالد الفكي لـ “العربي الجديد” أن الخرطوم تعيش حالياً مرحلة افتقاد القرار الاستراتيجي الذي يمكن أن ينظر إلى مدى المكاسب والفوائد حال إقدامها في تنفيذ اتفاقات أبراهام التي جرى التوقيع عليها خلال العام الماضي، وذلك بسبب عدم وجود مركز موحد للقرار الوطني، فضلاً عن أن المؤسسة العسكرية تتحكم في إدارة الشؤون التنفيذية للدولة، مما يصعب وجود أي قاعدة أو مرتكز نحو أفق ينفتح على علاقات راسخة مع إسرائيل.
أما الصحافي والمحلل السياسي محمد حامد جمعة فيرى أن الاتفاق أو الخطوات المتثاقلة بين الخرطوم وتل أبيب يبدو أنها محكومة بتعقيدات الوضع لدى الطرفين. كذلك يبدو عند البلدين أن الأولوية للتنسيق الأمني، لذا من الصعب الحديث عن تقييم الجوانب الاقتصادية أو الاستثمارية، لكن حتى في حال ذلك، فالأمر يحتاج إلى سنوات، خاصة مع تركيز إسرائيل على تجارب أفريقية، ومشروعات بالتحديد في إثيوبيا وأوغندا، خاصة في مدخلات الزراعة.