سيكولوجية Chat GPT ( القصيدة ؛ الإلهام الذي لايُبرمج )
بقلم :مكارم جميل
رغم براعته في تنسيق اللغة، وقدرته المذهلة على استدعاء الصور والكلمات، يقف شات جي بي تي عاجزًا أمام لحظة الإلهام الشعري، تلك الومضة التي لا تُصنع، بل تُولد. فالشعر، في جوهره، ليس تركيبًا لغويًا فحسب، بل زلزال داخلي، رعشة في الروح، تنهيدة خرجت من عمق الألم أو من قمة الدهشة. هو تلك اللحظة التي تهتز فيها الحياة داخل الكلمة، وتتحول التجربة الإنسانية الخام إلى موسيقى خفية لا يسمعها إلا من تجرع مرارة التجربة أو نبيذها.
الآلة تستطيع أن تكتب عن الحب ، لكنها لا تستطيع أن تشتاق. تصف الفقد، لكنها لم تدفن حلمًا، ولم تسهر بجانب سرير أم تحتضر. كل ما تملكه هو محاكاة متقنة، لكن دون نار تحترق من الداخل.
الشاعر الحقيقي لا يكتب ليُبهر، بل ليُشفى. يكتب لأن اللغة تضيق في حلقه إن لم تتحول إلى قصيدة. لأن الألم، حين يُترك في الظل، يتعفن، وحين يُكتب، يُزهر. وشات جي بي تي، مهما أوتي من بلاغة، لا يعرف طعم هذا التحول. لا يعرف كيف تُغزل القصيدة من لحظة خذلان، أو من قُبلة لم تصل، أو من صورةٍ تهاوت من إطار الذكرى على حين غفلة.
هنا يكمن الفرق: الشاعر يكتب من جرحٍ ينزف، بينما يكتب الذكاء الاصطناعي من قاعدة بيانات. الأول يحمل قلبًا يحتضر ليُحيي الكلمة، والثاني يحمل شفرةً تنسخ وتُعيد التشكيل.
الإلهام الشعري ليس قرارًا، بل حدث. ليس نتيجة إدخالٍ نصي، بل انفعال وجودي. يولد في صمت الليل، حين يخونك النوم، وتنهار فيك الكلمات لتولد من رمادها معجزة التعبير. يولد حين ترى وجهك في مرآة الذاكرة وتبكي دون أن تعرف السبب. يولد من لحظة ضعف لا يفهمها المنطق، ومن رعشة حب لا توثقها تقارير البيانات.
في هذا الإلهام، يظل الإنسان سيّد المشهد، لا لأن أدواته أعظم، بل لأن هشاشته تخلق المعنى، لأن دموعه تفسر المجاز، ولأن قلبه، حين ينكسر، يخترع لغة جديدة لا يعرفها سوى من كُسِر من قبل.
القصيدة ليست مجرد بناء محكم، ولا دهشة لغوية مرتبة كطاولة عشاء في قصر. القصيدة صرخة مخنوقة تجد طريقها بين الأسنان. هي ارتباك داخلي صارخ، يحاول أن يرتب نفسه عبر الكلمات، لكنه لا ينجح إلا حين يعترف بأنه لا يريد أن يُرتَّب. لذلك، يظل الشعر، في جوهره، فعلًا من أفعال الفوضى الجميلة، لا يمكن برمجته، ولا محاكاته إلا في قشرته الخارجية.
شات جي بي تي قادر أن يكتب بيتًا موزونًا، أو يصنع استعارة بارعة، أو يجمع مفردات الحزن والحب في سطر أنيق. لكنّ ما لا يستطيع فعله هو أن يختنق بالكلمة قبل أن يكتبها. لا يعرف كيف تقف القصيدة عند حافة الحنجرة، تتردد، ترتجف، ثم تسقط على الورق كدمعة ثقيلة.
الشعر الحقيقي لا يُولد من الرغبة في الكتابة، بل من الحاجة إليها كمنفذ نجاة. من لحظة يأس لا يُحتمل، أو من دهشة تنقضّ على القلب فجأة، فتدفع اليد إلى الإمساك بالقلم كما يمسك الغريق بخشبة. هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يغرق؟ أن يصرخ؟ . هو يعرف شكل الموج، لكنه لم يتنفس تحت الماء.
الشاعر، حين يكتب، لا يبحث عن الكمال، بل عن أثر: رعشة في صدر القارئ، جرح قديم يُفتح من جديد، دمعة تسقط دون إذن. في المقابل، شات جي بي تي يُراكم كلمات قد تُعجب، لكنها نادرًا ما تُوجع. ومتى غاب الوجع، غاب الشعر. لأن الشعر، في نهاية الأمر، هو ذلك الشكل الغامض من الألم الذي لا يُقال إلا بالتلميح.
حتى البهجة في الشعر، تلك التي تبدو خفيفة وسعيدة، هي في حقيقتها لحظة نجاة من حزنٍ كاد يبتلع كل شيء. من يستطيع أن يُقلد هذا؟ من يمكنه أن يزيف شعور الهروب من الهاوية إلا من وقف عليها فعلاً؟ لا يُولد الإلهام من النعيم، بل من المعاناة. وهذا ما لا يعرفه الذكاء الاصطناعي: أنّ الإلهام هو أحد أسماء النجاة المؤقتة.
ثم إن هناك لحظة عجيبة، لا تُبرمج ولا تُحسب، لحظة تكتب فيها بيتًا لا تفهمه تمامًا، لكنه يهزّك. تتركه كما هو، لأنه لم يأتِ منك تمامًا، بل جاء من مكان أعمق، من طبقة من النفس لم تصلها بعد. تلك اللحظة هي جوهر الشعر، وهي لحظة لا تحدث أبدًا لشيفرة مبرمجة.
يمكن لشات جي بي تي أن يكون أداة، لكنه لا يمكن أن يكون قلبًا. يمكنه أن يُجمّل، لكنه لا يستطيع أن يحتاج. لأن الشعر، قبل أن يكون إبداعًا، هو حاجة. حاجة الإنسان أن يسمع صدى قلبه في العالم، أن يقول: “أنا موجوع”، ويفهمه أحد. أن يحاول، ولو بالكلمات، أن يضع يده على كتف نفسه.
وهنا، يفشل الذكاء الاصطناعي، مهما بلغ من التقدم. لأنه لا يملك ذلك القلق الوجودي، ذلك الصراع الصامت بين المعنى والعدم، ذلك اللهيب الداخلي الذي يجعل الإنسان يكتب لا ليتفاخر، بل ليتنفس.
هذه اللحظة، بكل ضعفها، بكل توترها، بكل قدسيتها، هي ما لم ولن يستطيع شات جي بي تي فعله.لأن القصيدة ليست كلمات، بل شهقة. ولذلك، سيظل الشعر الإنساني، مهما تلعثم، أصدق من أي قصيدة تكتبها آلة بلا قلب.
سيظل بيت واحد من شاعرٍ جائع للحب، مكسور من الفقد، متورط في الحياة بكل فوضاها، أغلى من ألف بيت مصقول صاغه ذكاء لا يعرف طعم الحنين.