لقد سرقت دموعنا يا ذئب؟!
- عين على الحرب
الجميل الفاضل
أستطيع أن أفهم ما الذي أقلق منام علي أحمد كرتي بالضبط، وقضَّ مضجع حركته المسماة إسلامية، التي كانت نائمة إلى وقت قريب في عسل العودة على أسنة رماح كتائبها إلى الحكم، إلى حد أجبر كرتي على أن يفتح اليوم نيران غله، ويصب جام غضبه على جبهة الميثاق العلماني، الذي وُقِّع في نيروبي قبل يومين، واصفًا قادة تحالف السودان التأسيسي الجديد بما يشبه الهذيان الهستيري:
“بشراذم الباطل، وعملاء الخارج، الذين تجمعوا على جيفة مليشيا متهالكة، ليوقعوا معها ميثاقًا لتقاسم أشلاء الضحايا، بمداد دم الأبرياء، في صفحة سوداء بنيروبي، ويتغنون بترديد صرخات الذين قضوا تحت التعذيب، والتنكيل، والاغتصاب”.
فإن كرتي، الذي استند على جدار ساقط في شارع الزلزال، ربما إلى الآن لا يدري أنه عمّا قليل، ستتسع الصحاري حين ينقض الفضاء على خطاه،
لتنكسر البلاد على أصابعه كالفخار، وينكسر المسدس من تلهفه.
على أية حال، فإن من اجتمعوا في نيروبي لم يجتمعوا على جيفة مليشيا متهالكة كما قال كرتي، بل على حب وطن مثخن بجراح نصال صدئة، لم تراعِ في جسده العليل إلًّا ولا ذمة.
المهم، فعلى كرتي أن يجد أولًا الجسد في فكرة أخرى، وأن يجد البلد في جثة أخرى.
لا في ما فجَّر طيران ابنه “الجنرال الطاهر” فينا من ينابيع.
إذ لا شيء يكسرنا، فلا تغرق تمامًا، في ما تبقى من دم فينا.
ولا تذهب تمامًا، في شظايانا، لتبحث عن نبي فيك قد ناما.
فقد سقط السقوط، ونحن نعلو، فكرة، ويدًا، حلمًا، وقامة.
غير أن كرتي كان قد كال من سبابه المفرط على دولة كينيا، حتى قبل أن
يصدر الدكتور موساليا مودافادي، رئيس الوزراء وزير الخارجية الكيني، أمس، بيان ترحيب دولة كينيا بحكومة السلام والوحدة السودانية المرتقب تشكيلها.
حيث اعتبر موساليا تشكيل حكومة السلام والوحدة، خطوة مهمة لاستعادة السلام والاستقرار في السودان.
فقد قال كرتي:
“إن هذا التحالف نشأ تحت رعاية دولة فاسدة تريد أن تحيي رميم التمرد في السودان، وتسعى لتسعير نار الحرب، لأجل مصالح بالية، وأوهام متعاظمة، وأحقاد قديمة”.
فعلى كرتي أن يفهم، لو أنه لا يعلم، رغم “ميشاكوس”، ورغم “نيفاشا”، ورغم “سيمبويا”، أن “نيروبي” لا تعطي لتأخذ، إن “نيروبي” هي التي تعطي فقط، لكي تعطي، ولا تسأم من أن تعطي، منذ أن كان هنا “جومو”، وقبل أن يصبح ظله قاعة كبرى تفيَّأنا ظلالها، ذات نهار من نهارات كينيا الجميلة.
ابن “النوبة” الحلو، الذي أوبيت معه الجبال، فأسهب الخطاب، وأبناء “التاكا” سهولها وبطانتها، ومفتاح سرها الميرغني، مبروك، مبارك، وسعيد، ومن أبناء “الوهاد” دقلو، وبرمة الذي أبرم عهدًا أبى له أن ينكسر، ثم بجوارهم إدريس، وصندل، وحجر، وأبناء آخرون.
فقد استهل كرتي بيانه وكأنه وكيل أو ظل لله في الأرض، بآية تلمح إلى يقين بأن تحالف “تأسيس” قد نشأ من أجل أن يميز الله الخبيث من الباطل، وليجعل سبحانه وتعالى، الخبيث بعضه على بعض فيركمه، لكي يجعل الله في النهاية هؤلاء جميعًا في جهنم، (حسب ظن كرتي).
على أية حال، يبدو أن ما أخرج كرتي عن طوره هذه المرة، رغم زهوه وفخر أصحابه بأن هذه الحرب قد أعادت للحركة الإسلامية قوتها وألقها، كما ظن عبد الحي يوسف، هو أمر جلل في النهاية.
ولهذا، ربما اتكأ كرتي على كتابه القديم قائلًا:
“تجدد الحركة الإسلامية عهدها ووعدها بأننا ماضون في طريق العزة والكرامة، ملتزمون بواجباتنا في الحفاظ على لحمة المجتمع السوداني، وتوحيد صفه وتعظيم قيمه، والمدافعة لدحر الباطل في كل ميادينه، والاستعداد لمواجهته بكل الوسائل فداءً للدين والوطن”.
هو لحن رتيب مكرور، يصدر من ذات الأسطوانة المستهلكة، المشروخة، القديمة.
إذ لا بد من تناول قرص دوائي من أبيات لمحمود درويش لمواجهة مثل هذا اللزوم، يقول فيها:
“سرقتَ دموعنا يا ذئب
تقتلني وتدخل جثتي وتبيعها
اخرج قليلًا من دمي
حتى يراك الليل أكثر حلكةً
واخرج لكي نمشي لمائدة التفاوض، واضحينْ،
كما الحقيقةُ: قاتلٌ يُدلي بسكِّينٍ.
وقتلى يدلون بالأسماء.”