السودان في 2025: حرب تتقدم وبلد يشيخ على عجل… 10 محطات بين الحرب والذاكرة والفقد

سهام صالح

صحفية سودانية

لم يكن عام 2025 فصلًا جديدًا في الحرب السودانية بقدر ما كان عامًا ثقيلاً، متخمًا بالانكسارات والتحولات. عام أعادت فيه المعارك رسم الجغرافيا، وعمّق فيه الانسداد السياسي عزلة البلاد، بينما واصل الجوع والنزوح حصد الأرواح بصمت، بلا صور كافية ولا عناوين تليق بحجم المأساة.
عام تقدم فيه الجيش ميدانيًا في مواقع استراتيجية، فيما اشتعلت دارفور على نحو أكثر دموية، وتحول السودان إلى أكبر كارثة إنسانية في العالم. وفي الوقت ذاته، صار المنتخب الوطني ملاذًا رمزيًا أخيرًا لوحدةٍ تتآكل، وودع السودانيون فنانين ورياضيين رحلوا في المنافي أو على هامش الحرب، بلا وداع يليق بسيرهم، بينما كانت السينما – على نحو مفارق – تشق طريقها إلى العالم، حاملة صورة أخرى لبلدٍ لم يعد حاضرًا إلا في ذاكرته. فيما يلي عشر محطات تلخّص السودان خلال عام 2025:

1- استعادة الجيلي وود مدني: عودة الدولة أم إعادة انتشار؟

مع مطلع العام، أعلن الجيش السوداني استعادة مصفاة الجيلي، أكبر منشأة نفطية في البلاد، ثم مدينة ود مدني، قلب مشروع الجزيرة الزراعي.
هذه التطورات أعادت للجيش زمام المبادرة ميدانيًا، لكنها لم تُنهِ الحرب، بقدر ما أعادت توزيعها على جبهات جديدة، وطرحت سؤالًا قديمًا متجددًا: هل تعود الدولة فعلًا، أم يُعاد تموضعها فوق أنقاضها؟

2- القصر الجمهوري… رمزية السيطرة لا نهايتها

لاحقًا، استعاد الجيش القصر الجمهوري ومطار الخرطوم وعددًا من المقار السيادية.
مشاهد رُفعت فيها الأعلام واشتعل الخطاب “النصروي”، لكنها لم تُترجم إلى اختراق سياسي أو أمني شامل، في ظل عاصمة منهكة، شبه خالية من سكانها، ومقطوعة عن معناها كمدينة وذاكرة.

3- دارفور تشتعل: الحرب تنتقل إلى الأطراف

في النصف الثاني من العام، صعّدت قوات الدعم السريع عملياتها في دارفور، خصوصًا حول الفاشر، وسط تقارير عن مجازر ونزوح جماعي.
عاد الإقليم إلى واجهة المأساة، ليس فقط كساحة قتال، بل كاختبار أخلاقي جديد لعالمٍ اعتاد مشاهدة دارفور تحترق، ثم إدارة ظهره.

4- حكومتان في بلد واحد

إعلان الدعم السريع تشكيل حكومة موازية لم يكن مجرد مناورة سياسية، بل تكريسًا عمليًا لانقسام الدولة، وفتح الباب أمام سيناريو “السودانين”، أو دولة بلا مركز، وبلا عقد اجتماعي جامع.

5- مؤتمر لندن… العالم يختلف على السودان

فشل مؤتمر لندن بشأن السودان في إصدار بيان ختامي، بسبب تباين مواقف الدول الإقليمية والدولية. فشل كشف حدود الإرادة الدولية، وعجزها عن فرض مسار سلام حقيقي، أو حتى اتفاق لغوي حول توصيف ما يجري في البلاد.

6- أسوأ أزمة إنسانية في العالم

في 2025، لم يعد توصيف السودان كـ “أسوأ أزمة إنسانية عالميًا” محل جدل:
أكثر من 12 إلى 13 مليون نازح ولاجئ،
نحو 30 مليون إنسان بحاجة إلى المساعدة،
مجاعة، أوبئة، وانهيار شبه كامل للخدمات الصحية.
الخرطوم ودارفور ظلتا عنوانين للموت البطيء، ولحياة مؤجلة إلى أجل غير معلوم.

7- اقتصاد بلا أرضية

واصل الجنيه السوداني تراجعه، وارتفعت معدلات التضخم، فيما عجزت الدولة عن دفع المرتبات بانتظام.
الإعلان عن عودة السودان إلى مؤسسات التمويل الدولية بدا اختراقًا شكليًا، أقرب إلى رسالة سياسية، منه إلى تحول اقتصادي يلمسه الناس في حياتهم اليومية.

8- المنتخب… الفرح المؤجل في زمن الخراب

وسط هذا الركام، خطف منتخب السودان الأضواء:
التأهل إلى كأس أمم أفريقيا 2025،
الفوز التاريخي على غينيا الاستوائية،
وبلوغ دور الـ16.
تحوّل المنتخب إلى مساحة نادرة للإجماع الوطني، وملجأ نفسي لسودانيين أنهكتهم أخبار القتل والنزوح، فصار الفرح الرياضي فعل مقاومة رمزي، لا أكثر.

9- موت في المنافي: حين يرحل صُنّاع الفرح بصمت

في 2025، لم تعد المنافي مجرد ملاذات مؤقتة، بل صارت أماكن موت لرموز سودانية عجزت البلاد عن احتضانهم أحياءً أو وداعهم راحلين.
رحل “طبيب الفقراء” البروفيسور جعفر ابن عوف سليمان رائد طب الأطفال في السودان، أستاذ جامعي، ومؤسس مستشفى جعفر ابن عوف المرجعي للأطفال في الخرطوم، وله إسهامات كبيرة في تطوير الرعاية الصحية للأطفال، وإنشاء مراكز متخصصة، وتدريب أجيال من الأطباء، وتوفي في أبوظبي مارس 2025، تاركًا إرثًا إنسانيًا وعلميًا ضخمًا في السودان.
وتوفي طه فكي (شيخ طه)، نائب رئيس الاتحاد السوداني لكرة القدم الأسبق، في القاهرة، بعد مسيرة طويلة في الإدارة الرياضية والعمل العام، في مشهد يلخص مصير مؤسسات انهارت وتركته يواجه المرض بعيدًا عن بلده.
وغاب محمد إلياس محجوب، رئيس نادي المريخ الأسبق، أحد أبرز وجوه الإدارة الرياضية، دون أن يشهد تعافي الرياضة التي أفنى عمره فيها.
كما توفي نزار عبد الرحيم عربي، لاعب الهلال السابق، في المهجر، ليضاف اسمه إلى سجل لاعبين صنعوا أفراح الملاعب، ثم غادروا الحياة بعيدًا عن جمهورهم.
لم يكن رحيلهم حدثًا رياضيًا فحسب، بل مرآة لانهيار منظومة كاملة، تُنجب النجوم ثم تتركهم لمصائرهم.

10- الفن والسينما في مواجهة الفقد: ذاكرة تقاوم الخراب

في العام ذاته، واصل الوسط الفني نزيفه.
رحل عبد القادر سالم، أحد عمالقة الأغنية السودانية وباحثها العميق، تاركًا فراغًا في الذاكرة الموسيقية، خصوصًا في أغنية كردفان التي حملها إلى الفضاء الوطني.
كما صُدم الوسط الفني برحيل محمد فيصل الجزار، الفنان الشاب، في وفاة مبكرة اختصرت حلم جيلٍ كامل.
وفي السياق نفسه، ودّع السودان فنان الطنبور صديق، أحد الأصوات التي شكّلت وجدان الشمال السوداني، وحملت إيقاعات الطنبور من ضفاف النيل إلى الوعي الجمعي، قبل أن يرحل بصمت يليق بزمنٍ اعتاد أن يُنجب مبدعيه ثم يتركهم لمصائرهم، ويؤجل الاعتراف بهم إلى ما بعد الغياب.

لكن، على الضفة الأخرى من هذا الفقد، شهد عام 2025 حضورًا لافتًا للسينما السودانية في المهرجانات العربية والدولية.
من الدوحة إلى زيورخ، برزت أفلام سودانية جديدة، واحتُفي بأصوات شابة تحمل رؤى جريئة عن الثورة، والحرب، والمنفى.
وثائقي “سودان يا غالي” عاد ليقدم سردية بصرية عن المقاومة والذاكرة، فيما استمرت أعمال مثل “أشباح الحوت” في تمثيل السينما السودانية بوصفها فعل مساءلة للتاريخ والقمع.
هذا الحضور لم يكن ترفًا ثقافيًا، بل إعلانًا بأن بلدًا يتفكك على الأرض، ما زال قادرًا على أن يُروى، وأن يُرى، وأن يُسمَع، عبر جيل جديد من المبدعين يصنع السينما كفعل بقاء.
وفي إنجاز يُعد من الأهم في تاريخ السينما السودانية، جرى اختيار فيلمي «وداعًا جوليا» لمحمد كردفاني و«ستموت في العشرين» لأمجد أبو العلا، ضمن قائمة أعظم 100 فيلم عربي، في تصنيف يُعد من الأثقل وزنًا والأكثر مصداقية في المشهد السينمائي العربي، وجاء الفيلمان في المركز العشرين مكرر.
وهو اعتراف لا يحتفي بجماليات الصورة فحسب، بل يقرّ بأن السينما السودانية باتت قادرة على تحويل المأساة إلى لغة إنسانية عابرة للحدود، وعلى انتزاع موقعها في ذاكرة السينما العربية، رغم الحرب والمنفى وتفكك الدولة.
هكذا، تداخل الفقد مع الإنجاز، والموت مع الخلود الرمزي، ليؤكد عام 2025 أن بلدًا يتفكك على الأرض، ما زال قادرًا على أن يُروى، وأن يُرى، وأن يُسمَع، عبر فنّ وسينما يصنعهما جيل جديد، لا يملك سوى الحكاية سلاحًا للبقاء.

السودان… بلد يعيش بلا أفق

يمكن اختصار 2025 في السودان بأنه عام:
تقدم عسكري بلا سلام، سياسة بلا توافق، إنسان بلا حماية، وفرح رياضي عابر في بحر من الفقد.
عام لم يُغلق الحرب، لكنه عمق آثارها، وترك السؤال مفتوحًا:
كم من الأعوام الثقيلة ما يزال هذا البلد قادرًا على احتمالها؟

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.