سرديات.. الزاكي عبد الحميد أحمد

*ما كلُّ بارقةٍ تجود بمائها*.. يا زامينهوف!

هكذا قالوا حين وُئد مشروعٌ لغويٌّ عالميٌّ؛ بعد ان حقق نجاحا منقطع النظير في بداياته..

عبارةٌ خالدةٌ في مسرحية *هاملت* جاءت على لسان بطل مسرحية شكسبير حين كان يناجي نفسه:
To be or not to be..
يكون أو لا يكون.!!

هكذا جاءت الترجمة العربية للعبارة التي اقلقت مضاجع المترجمين في أنحاء كثيرة من العالم..

*هاملت* يرى أباه في ما يراه النائم؛ فيخبره هذا أن أخاه كلوديوس (أي عم هاملت) هو الذي قتله؛ وأن الملكة جيرترود (أي أم هاملت) هي شريكته في الجريمة؛ ويسأله أن ينتقمَ له من قاتليه..يتظاهر هاملت بالجنون عاقدا العزم على الثأر لأبيه؛ ولكنه يتوانى في تنفيذ ما طُلب منه..في أثناء هذا التردد، يدخل هاملت في مناجاة مع نفسه؛ اعتبرها النقاد محكاً لقدرات العديد ممن انبروا لترجمة حالة الصراع النفسي والترنح بين الفعل واللا فعل:
To be or not to be
التي تلبّست هاملت..

قالوا لم يوفّق في ترجمة مناجاة هاملت لنفسه إلا نفرٌ قليلٌ، ومنهم طبيب عيون بولندي..

ونجاح طبيب العيون، لم يتمثل في اجتيازه العقبة الكأداء التي واجهت المترجمين؛ وإنما كانت اللغة التي ترجم إليها المسرحية هي لغةٌ من تأليفه هو؛ فأصبحت لاحقا لغة عالمية يستخدمها الأدباء ورجال الصحافة ومذيعو الأخبار في أكثر من ثمانين دولة..

زامينهوف طبيب العيون البولندي كان على دراية بصعوبة تحقيق مشروعه اللغوي، ولكنه كان مصمما على النجاح؛ فعكف على دراسة جذور اللغة اللاتينية والرومانية والاغريقية والانجليزية والفرنسية والسلافية..وبعد عشرين عاما حقق المشروع نجاحا وبدأ زامينهوف يعلن عن ذلك بكتابة مقالات في كثير من بلاد العالم؛ تحت اسم مستعار-وهو الدكتور *اسبرانتو*..
واسبرانتو تعني باللغة الجديدة *الرجل المتفائل*..

وازداد زامينهوف تفاؤلا حين انتشرت لغته بسرعة واصبح لها ممثلون في أكثر من ثمانين دولة..

اليوم يتحدث بالاسبيرانتو ما يزيد على مئة وخمسين ألف شخص في مختلف المجالات المتخصصة؛ منها التجارية والسياسية والاعلامية، متجاوزين بذلك حدود اللغات المعروفة.. وتكتسب اللغة الجديدة قاعدتَها العريضة، من المتحدثين في اوروبا الشرقية والغربية والدول الاسكندنافية واليابان البرازيل..

وتسهيلا على الدارسين عمد الطبيب البولندي، إلى أن تكون نهاية كل اسم في لغته الجديدة حرف أو (O) ونهاية كل صفة حرف أيه (A) ونهاية كل فعل فيها تكون حرف آي (I)..فمثلا كلمة Sana بالاسبيرانتو؛ تعني الشخص المعافى و Matsana تعني الشخص المريض وكلمة Matsanulejo تعني مستشفى وهكذا..

ولكن رغم النجاح الذي حققته الاسبيرانتو في صدر أيامها؛ نسبة للشعارات التي رفعها مؤيدوها؛ ومنها كسر الحواجز اللغوية بين الأمم باستخدام لغة عالمية واحدة؛ إلا أن مؤشر نجاحها بدأ في الهبوط منذ عام ١٩١٢-وهو العام الذي رفض فيه زامينهوف ترؤس حركة الاسبيرانتو..وهو ما اعتبره فريق من النقاد أنه بداية النهاية لمسيرة اللغة الجديدة..وارجع هذا الفريق السبب في ذلك إلى *الشوفينية* للغات القومية..

نيكولاس شوفين Nicholas Chauvin كان من أكثر انصار نابليون بونابرت دفاعا عن سياساته واخلصهم وفاء لها وأشدهم التزاما بها؛ حتى صار مضرب مثل في التعصب..وإليه تنسب *الشوفينية*
Chauvinism
والتي تعني في معاجم اليوم التعصب لكل ما له صلة بالوطن وترابه..وبلغ البَلَه ببعض أهل الصحافة في بلادي في هذا الزمن الأغبر؛ اقول بلغ غباؤهم شأوا عظيما بتبنيهم للمفردة لتكون من اشتقاقات “شوف-شوفونية” ويقصدون بها استعراض العضلات؛ وهذا خطلٌ في القول؛ لو أدركوا لتواروا عن الكتابة خجلاً..

*الشوفينية* للغة الأم موجودة؛ منذ أمد بعيد؛ إذ لا توجد أمة على الارض، تقبل بديلا للغتها الأم..هذا بالطبع لا يعني الصدوف عن تعلم لغات الآخرين ولكن بشرط الا تكون على حساب اللغة الأم..

اليوم توجد أربع لغات يتحدث بها أكثر من نصف سكان العالم؛ وهي الصينية فالانجليزية فالعربية فالاسبانية..

الالمان شديدو التعصب للغتهم ولا يرضون ان تنافسها لغة اخرى..فالملك جورج الاول (١٦٦٠-١٧٢٧) مثلاً قبل ان يصير ملكا على انجلترا واسكتلندا وأيرلندا كان أميرا على هانوفر الألمانية..وعند وفاة الملكة آن ملكة انجلترا عام ١٧١٤ خلفها جورج الالماني الأصل؛ فحكم المملكة الانجليزية ثلاثة عشر عاما؛ لم يتعلم خلالها ولا كلمة انجليزية واحدة؛ وما ذلك إلا لشغفه بلغته الأم-الألمانية!.

الانجليزية هي اللغة الاوسع انتشارا في العالم-هي لغة الادب بالامس واليوم ولغة الكمبيوتر كما انها تعد اللغة الرسمية لكثير من دول العالم..ولكن لكل واحدة من هذه الدول؛ طريقة خاصة ونبرة تميز نطقها عن الآخرين؛ واذا ما اضفنا لذلك وجود بعض الكلمات المحلية في الانجليزية التي يتحدث بها أولئك؛ فنجد ان ذلك يشير ضمنا إلى الشوفينية..

وعن ذلك قال *وولي شوينكا* الكاتب النيجيري المعروف؛ والحائز على جائزة نوبل في الادب عام ١٩٨٦؛ إنه كثيرا ما يستخدم مفردات من لهجة قبيلته-اليوروبا؛ في الانجليزية التي يكتب بها كل أعماله..وقال إن الانجليزية تعجز احيانا عن التعبير عما أريد قوله من شيء يخص قبيلتي!

سير *ونستون شيرشل* رئيس الوزراء البريطاني أيام الحرب العالمية الثانية؛ وجّه انتقادا شديدَ اللهجة، لرجال الامن في بريطانيا لاستحدامهم عبارة Top Secret؛ والتي تعني “سري للغاية” لانها في نظره، خطأ من حيث المنطق، علاوة على أنها وافدة للانجليزية من امريكا..

ويبني الزعيم البريطاني حجتَه على ان السرية إن وضعتها تحت شيء تكون احسن وقعا على النفس؛ من وضعه فوق شيء؛ وتكون عرضة بالتالي للكشف والافصاح..ويقول لو سلّمنا بهذا الافتراض لكانت bottom secret اسلم منطقا -كقولك إن وضعت السر في قاع البئر؛ يبقى مكتوما اكثر من وضعه فوق فوهة البئر..ونصح شيرشل جماعته باستخدام عبارة Most Secret بدلا من عبارة Top Secret المعيبة..ولكن صرخة شيرشل لم تجد آذانا صاغية!

العربية تميزها عن سواها؛ خصائص تدل على ما بلغته عقول أهلها من الرقي وان كانوا بادية..

*ادوارد بوكوك* وهو اول من شغل كرسي اللغة العربية في أكسفورد (١٦٠٤-١٦٩١)؛ قال ما من لغة كالعربية تحسن استحدام الاحتراس- reservation..

والاحتراس عند *ابي الاصبع* هو أن يأتي المتكلِّم بمعنى يتوجّه عليه فيه دخَل (بفتح الدال والخاء-بمعنى شبهة) فيفطن لذلك حال العلم؛ فيأتي بما يخلصه من ذلك كقول *الخنساء* في رثاء أخيها *صخر*:

*لولا كثرة الباكين حولي*
*على اخوانهم لقتلتُ نفسي*
*وما يبكون مثل اخي ولكن*
*أعزّي النفسَ عنه بالتأسي*

فاحترست بالبيت الثاني حتى لا يظن ان اخاها مساوٍ لغيره من الهالكين..

فلا غَرو إذن إن قالت الاعراب لزامينهوف:
*ما كل بارقة تجود بمائها..*

والعبارة شطر لبيت شعر لبشار بن برد يقول فيه:
*ما كل بارقة تجود بمائها*
*لربما صدق الربيع فروّضا.*.

واكتفت العرب بشطر البيت وضربت به المثل..والبارقة هي السحابة التي تبرق..ومعنى المثل قد ينخدع المرء بالسحابة التي تبرق، فيظنها بشيرا بالمطر، فيفرح وينتظر؛ ثم يتبين انها غير ممطرة..وهكذا الانسان في حياته قد تصادفه مواقف قد ينخدع بها ويظنها آتية له بالخير؛ فيُفاجا بغير ذلك..ويُضرب المثل في التحذير من الانخداع بالمظهر..
Appearance is deceptive
كما يقول العجم..

 

**مزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع-يجدها من رغب- في كتابي الذي صدر قبل عامين بعنوان شذرات ثقافية في الادب والفن والسياسة او في موقع سودانيزاونلاين عام ٢٠٠٦..

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.