
العملية السياسية في السودان: تسوية تحت فوهة السلاح وصراع شرعيات مفتوح
الغد السوداني، هبة علي – بين هدنةٍ لا تولد، وحربٍ ترفض أن تموت، يقف السودان على حافة عملية سياسية يُراد لها أن تُنهي القتال، لكنها مهددة بأن تولد مشلولة منذ لحظتها الأولى.
ففي بلدٍ أنهكته البنادق، لم يعد السؤال: كيف ننتقل إلى الحكم المدني؟، بل: من يملك حق الجلوس إلى طاولة التفاوض؟ وبأي شرعية؟ وعلى حساب من؟
من عواصم إقليمية إلى غرف مغلقة برعاية دولية، تُدار محادثات لا تُسمع أصواتها في الداخل، بينما تتسع الفجوة بين القوى السياسية، ويتقدّم السلاح ليحتكر المشهد، ويصبح وقف الحرب نفسه رهينةً لمعادلات القوة والربح والخسارة.
هذه ليست مجرد عملية سياسية مؤجلة، بل معركة معقّدة على تعريف المستقبل، وحدود الشرعية، ومن سيدفع ثمن التسوية القادمة.
على ماذا تستند العملية السياسية؟
تستند العملية السياسية المرتقبة إلى خارطة الطريق الرباعية التي أعلنتها الولايات المتحدة في 12 سبتمبر الماضي، وقد وُجّهت إلى كل من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، متضمنة ثلاثة مسارات متداخلة:
- المسار العسكري
- المسار السياسي
- المسار الإنساني
وتفترض الخارطة أن وقف إطلاق النار وفتح الممرات الإنسانية يجب أن يتزامنا مع عملية سياسية تقودها القوى المدنية، إلى جانب إصلاح أمني شامل يعيد هيكلة الجيش والأجهزة النظامية، ويمهّد لانتقال مدني جديد.
لكن هذه الرؤية، رغم الترحيب النسبي من بعض القوى السياسية، اصطدمت بمواقف متناقضة على الأرض.
تعقيدات وتحديات: بين شروط الحكومة وميزان السلاح
ترفض الحكومة السودانية أي حل لا يتضمن تفكيك قوات الدعم السريع وتجريدها من السلاح وانسحابها من المناطق المدنية، وهو موقف أودعته رسميًا لدى الأمم المتحدة.
في المقابل، يواصل الدعم السريع تمدده العسكري، وسيطرته على مناطق حيوية، بما في ذلك حقول نفط ومعابر استراتيجية، ما يمنحه أوراق ضغط إضافية، ويُضعف فرص التوصل إلى تسوية متوازنة.
هذا الواقع الميداني يجعل العملية السياسية رهينة للتصعيد، ويهدد بانقسام فعلي للدولة، لا مجرد أزمة حكم.
الحل من الداخل… أم إعادة تدوير الأزمة؟
لطالما نادت قوى داخلية بـ”حل سوداني–سوداني”، لكن مفهوم الشمول ظل محل نزاع:
من يُشارك؟
ومن يُقصى؟
وأي مرجعية تحكم العملية؟
المحلل السياسي طاهر المعتصم يرى في حديثة لـ«الغد السوداني» أن نقطة التوافق الممكنة تبدأ بـإعلان مبادئ لا خلاف حوله، يعقبه نقاش تفصيلي بمصفوفة زمنية واضحة، مستندة إلى المرجعيات القائمة، وعلى رأسها خارطة الرباعية التي تنص على عملية سياسية تمتد ستة أشهر، تتخللها مؤتمرات وورش لوضع:
- مسودة دستور
- شكل الحكم
- ترتيبات الانتخابات
انتقال محدود الأهداف… لا أحلام كبرى
في المقابل، يدعو المحلل السياسي د. عبد الناصر سلم الذي تحدث لـ«الغد السوداني» إلى قراءة أكثر واقعية، معتبرًا أن وقف الحرب شرط إلزامي لأي عملية سياسية ذات معنى.
ويرى أن التوافق الممكن حاليًا هو انتقال محدود الأهداف، يركّز على: “منع انهيار الدولة، إدارة الأزمة الإنسانية، إعادة تشغيل الخدمات، تهيئة البيئة السياسية والأمنية”، دون الخوض المبكر في قضايا دستورية كبرى مؤجلة.
ويطرح سلم خيار حكومة كفاءات بغطاء سياسي واسع، لتجنب مصير حكومات ضعيفة بلا سند، ويؤكد ضرورة إخراج السلاح من إدارة السياسة اليومية، وربط أي مشاركة مستقبلية بإصلاح أمني تدريجي يوحّد القرار العسكري.
السلاح يتسيّد… والمدنيون يتراجعون
مع احتدام الصراع، بات المشهد السوداني خاضعًا لمنطق القوة.
يقول المعتصم لـ«الغد السوداني» إن المدنيين، بحكم عدم امتلاكهم للسلاح، تراجع دورهم، بينما يشهد الصراع حالة توازن قوة لا توازن ضعف، مع مدٍّ وجزرٍ ميداني، وإصرار من الطرفين على تحسين الموقف التفاوضي عبر التصعيد.
هذا الواقع، بحسب مراقبين، يُنذر بعملية سياسية تُفصّل على مقاس العسكر، وتُستخدم فيها القوى المدنية كغطاء لا كصانع قرار.
تحذير من الخطر الحقيقي: تسوية بلا مدنيين
يحذّر د. سلم من أن المرحلة الأولى من أي محادثات ستكون أمنية بحتة، تسبقها السيطرة على الأرض وتأمين الممرات، بينما يتراجع الدور القيادي للمدنيين لصالح دور تفاوضي محدود.
ويضيف أن الأولويات تغيّرت:
الأمن والخدمات باتت أكثر إلحاحًا من شعارات الديمقراطية، في ظل صعود اقتصاد الحرب وشبكات المصالح المرتبطة به، ما يقلل حماسة بعض الأطراف لأي تسوية حقيقية.
الخطر، كما يقول، هو إنتاج تسوية تُفرض بقوة الأمر الواقع، ثم يُطلب من المدنيين لاحقًا منحها شرعية شكلية.
صراع الشرعيات… من يحكم باسم من؟
تتعدد مصادر الشرعية في السودان اليوم:
- شرعية السيطرة العسكرية
- شرعية الاعتراف الدولي
- شرعية الثورة
- شرعية القدرة على تقديم الخدمات
ويرى سلم أن المرحلة القادمة ستكافئ من ينجح في تأمين الحياة اليومية، لا من يملك الخطاب الأعلى.
أما المعتصم، فيربط الأزمة بما بعد 25 أكتوبر 2021، حيث تحوّل البحث عن الاعتراف الدولي إلى عامل يؤجّج الصراع بدل حله.
الإقصاء المتبادل… عقدة السياسة السودانية
تظل قضية الإقصاء إحدى أعقد إشكاليات العملية السياسية.
فبعد استبعاد المؤتمر الوطني وواجهاته، عاد الجدل ليتجدد حول إقصاء قوى مدنية متهمة بدعم الدعم السريع، ما يعمّق الانقسام.
يدعو سلم إلى التمييز بين المسؤولية الجنائية والسياسية، ورفض الإقصاء الجماعي، مع محاسبة الأفراد المتورطين في الجرائم، وربط أي مشاركة مستقبلية بوقف الحرب وفك الارتباط بالعنف.
في السودان، لا تبدو العملية السياسية مسارًا واضحًا بقدر ما هي حقل ألغام: “سلاح يفرض إيقاعه، شرعيات متنازعة، وقوى مدنية تحاول النجاة من التهميش. وحده تفكيك معادلة الحرب، لا إدارتها، قد يمنح هذه العملية فرصة للحياة.
