تحقيق | من الذهب إلى العطش: المنظومة الخفية التي تُطيل الحرب في السودان

عاصم إسماعيل

صحفي سوداني

في صباحٍ بلا كهرباء، وقف عبد الرحمن، مزارع ستيني من قرى الولاية الشمالية، أمام أرضه التي عرفها خضراء طوال عمره. مد يده إلى التربة، فوجدها ساخنة وجافة، كأنها لم تعرف النيل يومًا. قال بهدوءٍ يشبه الاستسلام: «الموية قدامنا… لكن ما بنقدر نروي».

لم يكن عبد الرحمن ضحية جفاف طبيعي، بل ضحية حرب بعيدة عن حقله، قريبة من رزقه. حربٌ لا تُطلق الرصاص هنا، لكنها تطفئ المحوّل الكهربائي، فتُميت القمح واقفًا، وتحول موسمًا كاملًا إلى خسارة صامتة.

في مدينة أخرى، وعلى بعد مئات الكيلومترات، كانت أم أحمد، نازحة من الخرطوم، تقف في طابور الإغاثة منذ الفجر. حملت بطاقتها، وانتظرت ساعات تحت الشمس، قبل أن يُقال لها إن «الكميات نفدت». في طريق عودتها، لمحت الأكياس نفسها تُباع في السوق القريب. لم تبكِ. فقط تمتمت: «الحرب بقت تجارة».

بين حقلٍ عطشان، وطابور إغاثة مكسور، تتكشف ملامح حربٍ لم تعد معركة بين جبهتين، بل منظومة كاملة تُدار بالحسابات لا بالشعارات. حرب تُمول من الذهب الذي يُهرب، وتُغذى بالإغاثة التي تُباع، وتربح من الجنيه الذي ينهار، بينما يخسر الناس حياتهم قطعةً قطعة.

هذه ليست قصة أرقامٍ وخسائر فقط، بل حكاية بلدٍ تحولت موارده إلى لعنة، وأرضه إلى رهينة، ومواطنيه إلى وقودٍ لاقتصادٍ يزدهر كلما طال أمد الحرب. هنا، حيث تبدأ القصة الإنسانية، قبل أن تبدأ الحسابات.

لم يكن في حسابات السودانيين، وهم يودعون سنوات الانتقال الهش، أن تتحول موارد بلادهم المتنوعة إلى لعنة مفتوحة، وأن يصبح الذهب، والإغاثة، وحتى النزوح، جزءًا من منظومة اقتصادية غير معلنة تُغذّي الحرب وتُطيل عمرها.

فالحرب في السودان لم تعد مجرد صراع مسلح بين طرفين متنازعين على السلطة، بل تحولت، مع مرور الوقت، إلى اقتصاد متكامل له مستثمرون، وسماسرة، وشبكات تهريب، وشركات واجهة، وأذرع مالية عابرة للحدود.

اقتصاد يزدهر كلما طال أمد النزاع، ويخسر فيه المواطن وحده: قتيلًا، أو نازحًا، أو فقيرًا ينتظر معجزة لا تأتي.

الذهب… الثروة التي تُهرب بدل أن تُنقذ

منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، تصاعدت وتيرة تهريب الذهب بشكل غير مسبوق، رغم الوعود الحكومية المتكررة باعتباره “مخرجًا” من الأزمة الاقتصادية الخانقة.

تقرير أممي–إفريقي كشف أن السودان فقد نحو 267 طنًا من الذهب خلال سبع سنوات بسبب التهريب، بمعدل يصل إلى 80 كيلوغرامًا يوميًا. أرقام تعني ببساطة أن شريانًا اقتصاديًا كاملًا يُستنزف خارج الدورة الرسمية للدولة.

عبدالمنعم الصديق، رئيس شعبة مصدري الذهب، يذهب أبعد من ذلك، مؤكدًا في حديثة لـ«الغد السوداني» أن: “شركات تابعة للنظام السابق، وأخرى حكومية، وبعضها يتدثر بغطاء شركات سيادية، تصدر الذهب إلى دبي، ثم تُوزع العائد على تجار عملة خارج علم بنك السودان المركزي”.

هكذا تحول الذهب، الذي كان يُفترض أن يبني المدارس والمستشفيات، إلى وقود مباشر لاقتصاد الظل، ومصدر تمويل لحرب لا نهاية لها.

الإغاثة… من حق إنساني إلى سلعة في السوق

مع دخول الحرب عامها الثالث، وتحول الملايين إلى نازحين ولاجئين، تدفقت آلاف الأطنان من المساعدات الإنسانية إلى السودان، عبر البحر والجو والبر، خصوصًا من خلال معبر أدري الحدودي مع دارفور.

لكن المفارقة الصادمة، كما يروي نازحون، أن هذه المساعدات نادراً ما تصل إلى مستحقيها.

مئات الأسر تقف لساعات طويلة في طوابير قاسية، قبل أن تعود خالية الوفاض. في المقابل، تظهر مواد الإغاثة في الأسواق، تُباع بأسعار تجارية، وكأنها سلع مستوردة لا مساعدات إنسانية.

نازحون يوجهون اتهامات مباشرة: “تحويل مسار المساعدات، بيع البطاطين والمواد الغذائية عبر سماسرة، استبدال جوالات الإغاثة بأخرى محلية لإخفاء مصدرها”.

ويؤكد تجار في الأسواق أن بعض مناديب المنظمات يتواطؤون مع نافذين، لتتحول الإغاثة إلى نشاط ربحي منظّم.

منظومة كاملة للنهب… المواطن هو الخاسر

يتفق مختصون وخبراء اقتصاد على أن المنظومة الاقتصادية المستفيدة من الحرب نهبت البلاد على مرأى العالم.

من يسيطر على المناجم يملأ خزائنه، ومن يسيطر على المعابر يتحكم في الغذاء والدواء، بينما المواطن العادي يُسحق بين نارين.

خبير الاقتصاد جاد الله فضل المولى يرى في إفاداته لـ«الغد السوداني» أن: “استمرار الحرب يعني ببساطة أنها تدر المال لمن أشعلها، بأشكال مختلفة، من تهريب الذهب، إلى المضاربة بالعملة، إلى تجارة الإغاثة”.

ويضيف أن الحرب لم تعد فقط صراع نفوذ، بل مشروع استثماري كامل، نهايته تعني خسائر فادحة للمستفيدين منه.

مضاربة العملة… تدمير الجنيه عن قصد

بحسب فضل المولى، لم تكن المضاربة في الدولار مجرد سلوك عشوائي، بل عملية منظمة تقودها شبكات نافذة: “شراء العملة من السوق السوداء، رفع السعر بشكل مصطنع، حرمان الدولة من الاستيراد، دفع الاقتصاد نحو الإفلاس”.

النتيجة:

انهيار الجنيه، تضخم جامح، وارتفاع جنوني في أسعار السلع الأساسية.

الصمغ العربي والمنتجات الزراعية… موارد بلا عائد حتى الزراعة لم تنجُ من اقتصاد الحرب.

الصمغ العربي، أحد أهم صادرات السودان، جرى تهريبه واحتكرت تجارته قوات الدعم السريع، بحسب خبراء، بعائدات ذهبت إلى حسابات خاصة، بينما تُرك المزارع بلا دعم أو مدخلات إنتاج.

العطش كأداة حرب

لم يكن العطش، في الولاية الشمالية، مجرد نتيجة طبيعية للجفاف أو تقلّبات المناخ، بل أصبح أحد الوجوه الصامتة لحربٍ أعادت رسم علاقة السودانيين بأرضهم.

هناك، حيث يمتد النيل وتُزرع القمح والفول السوداني والخضراوات، توقفت الحياة الزراعية فجأة، لا بسبب نقص المياه في مجراها، بل بسبب انقطاع الكهرباء عن مضخات الري، فتحولت آلاف الأفدنة إلى مساحات صفراء يابسة، تشبه الخراب الذي خلّفته الحرب في المدن.

في شمال السودان، يخوض المزارعون معركة غير متكافئة:

أرض موجودة، ومياه قريبة، لكن التيار الكهربائي غائب، والدولة عاجزة، والحرب لا تكتفي بإسكات البنادق، بل تقطع شريان الزراعة.

خسائر بالمليارات… وأرقام بلا مزارعين

بحسب وزارة الزراعة السودانية، تكبّد القطاع الزراعي خسائر تُقدّر بنحو 10 مليارات دولار منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من عامين بين الجيش وقوات الدعم السريع.

خسائر لا تُقاس فقط بالأرقام، بل بما تعنيه من أمن غذائي مهدد، ومزارعين خرجوا قسرًا من دورة الإنتاج.

تشير البيانات الرسمية إلى:

تلف 40% من محصول القمح في شمال البلاد بسبب العطش الحاد.

تلف أكثر من 4000 فدان من الفول السوداني.

تضرر واسع لمحاصيل الخضراوات، التي تشكل مصدر دخل يومي لآلاف الأسر.

لكن هذه الأرقام، كما يقول مزارعون، لا تعكس حجم الكارثة الحقيقي، لأن كثيرًا من الخسائر لم تُحصَ، مع خروج مناطق كاملة عن الرصد، أو انسحاب المزارعين قبل اكتمال الموسم.

الكهرباء… الحلقة الأضعف في سلسلة الغذاء

منذ أشهر، أصبح انقطاع التيار الكهربائي في معظم ولايات السودان حدثًا يوميًا، لا استثناءً طارئًا.

في الولاية الشمالية، حيث يعتمد الري شبه الكامل على الكهرباء، كان الأثر مضاعفًا.

استهداف مسيرات الدعم السريع لمحطات الكهرباء حول البنية التحتية للطاقة إلى هدف عسكري، لكن ضحايا هذا الاستهداف لم يكونوا فقط محطات ومحولات، بل حقولًا عطشى، ومحاصيل ماتت واقفة، ومزارعين فقدوا موسمهم الوحيد.

تجمع مزارعي الولاية الشمالية يؤكد أن نحو نصف مليون فدان من الأراضي الزراعية تضررت بصورة نهائية بسبب انقطاع الكهرباء، وهي مساحة تعادل فقدان شريط زراعي كامل على ضفاف النيل.

حلول أقل من الكارثة

في مواجهة هذه الأزمة، لجأ بعض المزارعين إلى حلول بديلة: “مولدات الديزل، مضخات تعمل، بالطاقة الشمسية، تقليص المساحات المزروعة إلى الحد الأدنى، لكن هذه الحلول، كما يقول المزارعون، ليست في متناول الجميع”.

الوقود باهظ الثمن، والطاقة الشمسية تحتاج إلى استثمارات لا يملكها صغار المزارعين، بينما الدولة غائبة عن أي برنامج دعم حقيقي.

هكذا، يصبح العطش طبقيًا:

من يملك المال يزرع، ومن لا يملكه يترك الأرض بورًا.

من اقتصاد الحرب إلى تجفيف الحقول

في سياق التحقيق الأوسع حول اقتصاد الحرب في السودان، لا يبدو ما يحدث في الولاية الشمالية معزولًا.

فبينما تُهرب الموارد، ويُضارب بالعملة، وتُنهب الإغاثة، تُترك الزراعة—أحد آخر أعمدة الاقتصاد الحقيقي—لتنهار بصمت.

يرى مختصون أن تدمير الزراعة لا يقل خطورة عن تدمير المصانع، لأن: “الزراعة تعني غذاءً محليًا، والغذاء يعني تقليل الاستيراد، وتقليل الاستيراد يعني تخفيف الضغط على العملة، لكن في اقتصاد الحرب، لا مكان لهذا المنطق”.

الخراب، كما يبدو، أكثر ربحية من الحقول الخضراء.

حين تموت الأرض… يهاجر أصحابها

مع كل موسم ضائع، لا يخسر المزارع محصوله فقط، بل يفقد سبب بقائه.

كثيرون غادروا قراهم، بعضهم إلى المدن، وآخرون إلى خارج البلاد، ليضافوا إلى أرقام النزوح والهجرة التي تتضخم عامًا بعد عام.

في شمال السودان اليوم، لا يُسمع صوت الحاصدات، بل شكاوى العطش، وحنين إلى مواسم كان فيها النيل كافيًا، والدولة—ولو بالحد الأدنى—حاضرة.

سؤال بلا إجابة
في بلد يمتلك: نهرين، وأراضي شاسعة، وخبرة زراعية متراكمة، كيف تتحول المشاريع الزراعية إلى أراضٍ جرداء؟

الإجابة، كما يقول المزارعون، لا تتعلق بالمناخ وحده، بل بحربٍ لا تكتفي بقتل البشر، بل تُجفف الأرض نفسها، وتعيد تعريف الخسارة لتشمل ما كان يُفترض أن يُنقذ السودان من المجاعة.

اقتصاد موازٍ ينافس الدولة

الخبير المصرفي عمر سيد أحمد يصف لـ«الغد السوداني» المشهد بوضوح: “الحرب فرضت اقتصادًا موازيًا ينافس الدولة على مواردها، ويعيد تشكيل الأسواق والحدود”.

الأرقام صادمة:

تراجع الناتج المحلي من 56.3 مليار دولار (2022) إلى 32.4 مليار دولار متوقع في 2025.

خسائر إنتاجية تتجاوز 90 مليار دولار.

تعطّل أكثر من 60% من المصانع.

بطالة تفوق 45%.

فقر يطال قرابة 70% من السكان.

الرسوم والفِدى… حين يُباع الخروج من المدينة

في مدن عدة، فُرضت رسوم مليارية على المدنيين للسماح لهم بالمغادرة.

في الخرطوم، الجزيرة، الفاشر، ودارفور، تحوّل المرور على الحواجز إلى عملية ابتزاز.

عيسى أبكر يروي لـ«الغد السوداني» أن والده ما زال محتجزًا: “طلبوا 20 مليار جنيه لإطلاق سراحه… دفعنا جزءًا ولم يحدث شيء”.

شهادات مشابهة تتكرر، مع حديث عن مفقودين، وسجناء، وضرائب بلا أي مسوغ قانوني.

من يربح من الخراب؟

تشير تقديرات إلى أن 80% من إنتاج الذهب السوداني يُهرب، عبر دول الجوار، نحو الأسواق العالمية، خصوصًا الإمارات التي استحوذت على 97% من الصادرات الرسمية في 2024 بعائدات بلغت 1.52 مليار دولار.

لكن الجزء الأكبر من هذه الأموال ظل خارج القنوات الرسمية، وتحول إلى وقود مباشر لاقتصاد الحرب.

تفكيك اقتصاد الحرب… الطريق الوحيد للسلام

يؤكد جاد الله فضل المولى لـ«الغد السوداني» أن: “لا استقرار دون تفكيك اقتصاد الحرب، وكشف شبكات التهريب والمصالح، ومواجهة المنظومة التي تُطيل النزاع من أجل الربح”.

في السودان اليوم، لم تعد الحرب حدثًا عابرًا، بل سوقًا مفتوحة، يُتاجر فيها بالذهب، والإغاثة، والعملة، وحتى الدم.

وحدهم الذين يحلمون بوطن آمن، يدفعون الثمن.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.