*الرجل الذي «مَلَصَ» سرواله*

بلال بلال

بلال بلال يكتب ..
في أواخر سبعينات القرن الماضي، وفي واحدةٍ من أشهر مباريات
الهلال والمريخ،
انتصر المريخ بهدفين أحرزهما عبده الشيخ، بعد أداءٍ أربك دفاع الهلال حتى قيل إن مدافع الهلال ، عصام عبد الخير تعرّض،
لـ«خياطة سبعة تمانية»،
انتهت بأن شُقَّ – أو «مَلَصَ» – سرواله،،
خرجت جماهير المريخ منتشية،
في تظاهرة عارمة عند ميدان
أب جنزير،
تردّد هتافًا ساخرًا لا يُنسى:
“*مالنا ومالو… شَرَط سروالو*”
ولعلها، على سبيل الدعابة،
أولى وقائع «مَلْص السراويل»
في الذاكرة الشعبية.
بعد عقود، عاد «ملص السروال» إلى الواجهة، لا في ملعب كرة،
بل على مسرح الفن والجدل العام، حين خلع محمد تروس سرواله،
لم يكن الفعل مجرّد حركة عابرة،
بل صار شرارة أيقظت سؤالًا قديمًا نائمًا في وجدان المجتمع،
فالقضية لا تتعلّق بمحمد تروس كشخص، بقدر ما تتعلّق بوضعٍ مألوف في جوهره ومختلف في سياقه:
فنانٌ يتحرّك بمنطق الحرية، ومجتمعٌ يتحرّك بمنطق الحماية.
الفن، بطبيعته، تمرّدٌ ناعم، يختبر المسكوت عنه، ويطرق أبواب الراكد، لكنه حين يفعل ذلك في فضاءٍ اجتماعي شديد الحساسية للرمز والدلالة، يصبح الفعل الواحد محمّلًا بأكثر مما يحتمل. فالمجتمع السوداني، كسائر المجتمعات ذات الجذور العميقة، لا ينظر إلى المظهر العام بوصفه شأنًا شخصيًا محضًا، خصوصًا عندما يصدر عن شخصية عامة؛ فالفنان لا يُرى فردًا فقط، بل نموذجًا، وأي خروجٍ منه يُقرأ رسالة، قصدها أم لم يقصدها.
ومن هنا اشتعل الجدل:
هل كان ما حدث تعبيرًا فنيًا مشروعًا، ؟؟ أم خرقًا للذوق العام؟ هل يُدان الفنان لأنه تقدّم خطوةً أسرع من مجتمعه،؟؟
أم يُدان المجتمع لأنه يجرّ الفن إلى الخلف؟
فبين جسدٍ يعتلي المسرح، وضميرٍ جمعيٍّ يراقب، انقسم الوعي قبل أن ينكشف الجسد.
المدارس الفنية الحديثة ترى في الجسد أداة تعبير، وفي الصدمة وسيلة لإيصال الفكرة، لكن الإشكال لا يكمن في الفكرة ذاتها،
بل في استيرادها دون مراعاة السياق الثقافي المحلي،
حيث يتحوّل الاختلاف من مساحة حوار إلى ساحة تصادم،
أما القانون، فيقف كما هي عادته في منطقة وسطى؛ فلا يُجرّم الفعل الفني لمجرّد الاستفزاز، لكنه يتدخّل متى اعتُبر الفعل مخلًا بالآداب العامة، أو ماسًّا بالنظام العام!
وهنا يتجلّى الفرق بين مساءلةٍ قانونية محدودة، تضبطها النصوص، ومساءلةٍ مجتمعية أوسع وأقسى، كثيرًا ما تحاكم النوايا قبل الأفعال.
وليس هذا الجدل بعيدًا عن الذاكرة القريبة؛ ففي زمن الإنقاذ وقانون النظام العام، أُدينت فتاة وجُلدت لأنها لبست بنطلونًا!!
ولا يسع المرء، ساخرًا وحزينًا،
إلا أن يتساءل: ماذا كان سيكون مصيرها لو أنها «مَلَصَت» البنطلون؟
ليست القضية، في حقيقتها،
سروالًا خُلع، بل معنىً انكشف؛ وليست في جسدٍ ظهر، بل في وعيٍ انقسم، إنها لحظة اختبار لقدرتنا على إدارة الاختلاف دون أن نُصلب الحرية باسم القيم، أو نهين القيم باسم الحرية. فالفنان محتاج إلى أن يدرك أثر رمزيته، والمجتمع محتاج إلى أن يدرك أن الفن لا يتنفّس إلا بهامشٍ من الحرية! وبين هذا وذاك، لا يكون الحل في الصدام، بل في تفاهمٍ تدريجي يحفظ للذاكرة وقارها، وللفن حقه في أن يطرق الأبواب دون أن يكسرها،

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.