النفط أولًا… كيف عرت صفقة هجليج خطاب السيادة والحرب في السودان؟
(تحليل) هبة المكي – لم يكن إعلان المتحدث باسم حكومة جنوب السودان، أتيني ويك أتيني، عن توصل الرئيس سلفا كير إلى اتفاق مع طرفي النزاع في السودان لإدخال قوات من جنوب السودان إلى حقل هجليج، مجرد خبر عابر في سياق الأزمة السودانية الممتدة، بل لحظة كاشفة أزاحت الستار عن جوهر الصراع، وعرّت الخطاب الرسمي الذي طالما ارتدى عباءة «الكرامة» و«السيادة» لتبرير حرب أنهكت البلاد وأفقرت الإنسان.
الاتفاق – وفق ما أُعلن – لم يأتِ عبر مسار سياسي جامع، ولا ضمن رؤية إقليمية لإنهاء الحرب، بل عبر إجراء سريع واتصال مباشر مع قائدي طرفي النزاع، انتهى إلى قرار مباشر وتنفيذ عملي: تأمين حقول النفط وضمان تدفقه.
هنا، تتبدد كل دعاوى الكرامة، وتختفي الشعارات التي تُرفع عندما يُطرح سؤال وقف الحرب وحقن الدماء، أو حماية المدنيين، أو إنقاذ ما تبقى من الدولة.
عندما يصبح التفاوض مباحًا… بشرط أن يكون على النفط
اللافت أن التفاوض يصبح ممكنًا ومتاحًا حين يتعلق الأمر بحماية النفط، حتى وإن لم يكن ذلك لمصلحة البلاد أو لحماية ممتلكات الشعب. ولو كان الهدف وطنيًا حقًا، لما قُصفت سابقًا منشآت حيوية مثل الكباري، والمصفاة، والمناطق الصناعية.
سلطة الأمر الواقع… تفاوض حين تريد
الدلالة الأولى، والأخطر، في هذا الاتفاق، أنه يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن سلطة الأمر الواقع قادرة على التفاوض والاتفاق، ليس فقط مع أطراف داخلية، بل ومع قوة أجنبية، متى ما تعلق الأمر بالمصالح الاقتصادية، وعلى رأسها النفط.
في المقابل، يغيب هذا الاستعداد للتسوية تمامًا عندما يكون الحديث عن حقن دماء السودانيين، أو وقف نزيف المدن، أو إعادة ملايين النازحين إلى بيوتهم.
وهنا يصبح السؤال مشروعًا:
لماذا يُفتح باب البراغماتية السياسية على مصراعيه عندما يتعلق الأمر بالبترول، ويُغلق بإحكام عندما يكون المواطن هو الثمن؟
قوات أجنبية… وسيادة انتقائية
الدلالة الثانية أن الاتفاق يقرّ صراحة بدخول قوات من دولة جنوب السودان إلى أراضٍ سودانية، لتولي مهمة أمنية حساسة. هذا الاعتراف العملي يقوّض أي خطاب يتحدث عن «رفض التدخل الأجنبي» أو «حماية السيادة الوطنية»، ويكشف عن سيادة انتقائية تُستدعى في الإعلام، وتُعلّق في الواقع متى ما اقتضت المصالح ذلك.
فإذا كان وجود قوات أجنبية مقبولًا لحماية النفط، فلماذا يُجرَّم الحديث عن مراقبين دوليين لحماية المدنيين؟ ولماذا تُخوَّن كل مبادرة إقليمية أو دولية تسعى لإيقاف الحرب؟
اعتراف ضمني بخارطة السيطرة
أما الدلالة الثالثة، وهي الأخطر في تقديري، فهي الاعتراف غير المعلن – لكنه الواضح – بسيطرة قوات الدعم السريع، وحكومة «تأسيس» المرتبطة بها، على الموقع الجغرافي محل الاتفاق.
فالحديث عن اتفاق لتأمين منشآت نفطية لا يتم إلا مع الطرف المسيطر فعليًا على الأرض، ما يعني أن خطاب الإنكار الرسمي للواقع الميداني يتهاوى أمام أول اختبار اقتصادي حقيقي.
بهذا المعنى، لا يعكس الاتفاق رغبة في الاستقرار، بقدر ما يؤسس لتكريس تقاسم فعلي للبلاد، تُدار فيه المناطق وفق ميزان القوة، لا وفق إرادة الشعب.
بلد مقسوم… ولا عزاء للمواطن
في محصلته النهائية، يبدو الاتفاق كأنه صفقة بين أطراف تتقاسم الجغرافيا والثروة، فيما يُترك المواطن السوداني خارج الحسابات تمامًا.
لا حديث عن تعويضات، ولا عن حماية المدنيين، ولا عن مأساة المدن المحاصرة، ولا عن مستقبل الدولة. وحده النفط يحظى بالإجماع، وحده يستحق وقف إطلاق نار مؤقتًا، أو تفاهمًا عابرًا للخطابات العدائية.
وهنا تتجلى المفارقة القاسية:
يتفقون من أجل البترول، ويرفضون الاتفاق من أجل الإنسان.
«لا للحرب»… موقف سياسي لا شعار عاطفي
تكشف واقعة هجليج أن الحرب في السودان لم تعد تُدار بمنطق الدولة، بل بمنطق الموارد والمصالح، وأن استمرارها لا يخدم سوى أمراء الصراع، بينما يدفع ثمنها المواطن وحده.
من هذه الزاوية، يصبح شعار «لا للحرب» ليس موقفًا أخلاقيًا فحسب، بل قراءة سياسية واقعية، ترى أن إنهاء الحرب هو المدخل الوحيد لإنقاذ ما تبقى من السودان، واستعادة السياسة من قبضة السلاح، والإنسان من هامش المعادلة.
