
الصين آخر المغادرين بعد التدهور الأمني في السودان
الغد السوداني _ متابعات
قررت شركة البترول الوطنية الصينية “سي أن بي سي” إنهاء استثماراتها النفطية في السودان بعد ثلاثة عقود من الشراكة، في خطوة تمثل تحولاً حاداً في علاقة ظلت، عقوداً، إحدى ركائز قطاع الطاقة السوداني. وجاء القرار، الذي استند إلى مبررات “القوة القاهرة” على خلفية التدهور الأمني في حقل بليلة بولاية غرب كردفان، مصحوباً بطلب رسمي لعقد اجتماع مع الحكومة السودانية خلال ديسمبر (كانون الأول) الجاري لبحث الإنهاء المبكر لاتفاقيتي تقاسم الإنتاج وخط أنابيب الخام. وعلى رغم أن التوقف الحالي لا يعني خروجاً فورياً، فإن انسحاب الشركة سيفقد السودان شريكاً استراتيجياً نادراً في ظرف اقتصادي حرج.
في سياق تتقاطع فيه تحولات الجغرافيا السياسية السودانية مع تبدل خرائط الاستثمار الدولي، تبدو قصة شركة البترول الصينية في السودان نموذجاً لمسار بدأ بوعود واسعة وانتهى بانكماش حاد. فمنذ وصول الشركة منتصف التسعينيات، لعبت دوراً محورياً في تحويل السودان إلى منتج ومصدر للنفط، بدءاً من اتفاق تقاسم الإنتاج الموقع في 26 سبتمبر (أيلول) 1995، الذي منحها حق الاستكشاف والتطوير في امتياز مربع (6) بمنطقة بليلة بولاية غرب كردفان. وتولت شركة “بترو إنيرجي”، وهي شراكة بين “سي أن بي سي” و”سودابت”، إدارة الحقل، ليصبح إحدى أهم ركائز التعاون بين بكين والخرطوم.
لكن مسار الشركة تغير جذرياً بعد انفصال جنوب السودان عام 2011، إذ فقدت “سي أن بي سي” معظم مربعاتها المنتجة الواقعة في الجنوب، وهي المناطق التي شكلت القلب الإنتاجي لقطاع النفط قبل الانفصال. ومع إعادة رسم الحدود، تقلص نشاط الشركة داخل السودان الشمالي واقتصر فعلياً على مربع (6)، الذي تحول إلى آخر موطئ قدم كبير لها في البلاد، في وقت ازدادت التحديات الأمنية والتشغيلية وتراجعت الجدوى الاقتصادية.
وكان مربع (6) ينتج قبل اندلاع الحرب نحو 18 ألف برميل يومياً، مما يجعل توقفه خسارة كبيرة للاقتصاد السوداني، في حين أن إعادة تشغيله تتطلب استثمارات باهظة. ومع مطالبة “سي أن بي سي” بفسخ العقد قبل موعده المقرر عام 2026، تبدو البلاد أمام استحقاق جديد يثقل المشهد النفطي ويعيد طرح أسئلة كبرى حول مستقبل القطاع في ظل غياب أحد أعمدته التقليدية.
لهذه الأسباب نجح الصينيون حيث أخفق السوفيات
تتعقد الصورة أكثر عندما ندرك أن الحكومة السودانية داخل بلد يعيش حرباً واسعة، تفتقر إلى “الاستقرار السياسي” الذي يعد شرطاً أساساً في أي نزاع تحكيمي دولي. فاللجوء إلى التحكيم يعني دخول مسار طويل ومكلف، لا يملك السودان فيه القدرة على تحمل كلف المحامين الدوليين، ولا يملك البيئة التنفيذية لتطبيق أي حكم قد يصدر لصالحه. بل إن صدور حكم لا يعني بالضرورة قابليته للتنفيذ في ظل انقسام السلطة، وانهيار مؤسسات الدولة، وعدم تمكن الحكومة من السيطرة الفعلية في الإقليم الذي يقع فيه الحقل.
وعلى الجانب الآخر، يمنح هذا الوضع الشركة الصينية هامشاً واسعاً للمناورة، فهي تخرج من دون كلف إضافية، وتحتمي ببند قانوني متماسك، وتستفيد من غياب سلطة سودانية مركزية قادرة على تقديم اعتراض موحد. الأكثر من ذلك أن تفعيل “القوة القاهرة” يقطع الطريق أمام أي اتهام بانسحاب سياسي أو إعادة تموضع استراتيجي، لأنه يقدم إطاراً قانونياً محايداً يغلق الباب أمام أي تصعيد دولي.
بهذا المعنى، فإن البعد القانوني ليس مجرد تفصيل تقني، بل هو الحلقة التي تربط بين هشاشة الدولة السودانية، وحسابات الشركات الكبرى، وميزان القوى الدولي، لتجعل خروج “سي أن بي سي” واقعة شبه محكمة يصعب قلب مسارها أو ملاحقتها قضائياً في زمن الانقسام.
فراغ نفطي
يمثل خروج شركة البترول الوطنية الصينية من السودان إحدى أعنف الضربات الاقتصادية التي تلقاها البلد منذ اندلاع الحرب، إذ وجدت الحكومة السودانية نفسها أمام فراغ نفطي كامل يهدد ما تبقى من قدرة الدولة على البقاء الاقتصادي. فالقرار لا يعني فقط توقف الإنتاج في مربع (6)، بل يفتح الباب أمام شلل شبه تام في منظومة النفط في شمال السودان، وعلى رأسها حقل “هجليج”، الركيزة الأساسية للصادرات النفطية، إلى جانب حقل “بامبو”، اللذين يشكلان العمود الفقري لأي تدفق نقدي يمكن أن تعتمد عليه الحكومة.
كان حقل “هجليج” ينتج في المتوسط نحو 40 ألف برميل يومياً قبل توقفه، أي ما يعادل أكثر من 60 في المئة من إنتاج السودان النفطي القابل للتصدير. ولعقود، مثل هذا الحقل مصدراً ثابتاً للعملات الصعبة، ومورداً رئيساً لتمويل الخدمات العامة، والصرف الدفاعي، وتأمين الحد الأدنى من الاستقرار النقدي. ومع توقفه، تدخل خزانة الدولة مرحلة “السيولة الحرجة”، إذ يتراجع الاحتياط من النقد الأجنبي إلى مستويات غير مسبوقة، وتتقلص قدرة السلطة على شراء الوقود والدواء والقمح وحتى دفع الرواتب.
الآثار المالية ليست مجرد فجوة في الموازنة، إنها كارثة نقدية شاملة، إذ يتوقع خبراء أن يخسر السودان مئات الملايين من الدولارات سنوياً، في وقت يعاني فيه أصلاً عجزاً مالياً حاداً وتضخماً منفلتاً، مما سيؤدي إلى مزيد من التدهور في سعر العملة السودانية، وارتفاع فاتورة الواردات، وانكماش قدرة الحكومة على تمويل استيراد السلع الأساسية، مما يهدد، أيضاً، بزيادة الفجوة الإنسانية وتنامي السوق السوداء للوقود والعملة معاً.
على الصعيد الإقليمي، يفقد السودان أوراقاً تفاوضية مهمة، فإدارة خطوط نقل النفط من الجنوب إلى الموانئ في شرق السودان تعتمد على قدرة الحقول على العمل وصيانة البنية التحتية. ومع انهيار هذه القدرة، تضعف مكانة الحكومة السودانية في أي تفاوض مع جوبا، خصوصاً أن محطة المعالجة المركزية في المنطقة تخدم نحو 130 ألف برميل يومياً من نفط جنوب السودان. وقد استأنف الجنوب تصدير نفطه عبر الأراضي السودانية في مايو (أيار) الماضي بعد توقف لعام كامل، مما يجعل أي تعطل جديد ضربة مزدوجة للبلدين معاً.
وهكذا يتجاوز قرار الشركة الصينية مجرد انسحاب استثماري، بل إعادة تشكيل للمعادلة النفطية بأكملها، تدخل السودان في مرحلة اقتصادية أكثر هشاشة، وتقوض مستقبل القطاع النفطي وتوازنات الدولة المالية لسنوات مقبلة.
“نقلاً عن اندبندنت عربية”
