التومات: بين الحقيقة وظلال الروايات

بقلم: إبراهيم سالكا

في ذاكرة الشعر الشايقي حيث تتداخل الاصوات وتتقاطع الحكايات وتعلو التجارب مثل امواج النيل في مواسم الفيضان تبقى بعض النصوص مثل نجم يلمع في ليل بعيد لا يقدر الغبار على اخماده ولا يقدر النسيان على محوه ومن هذه النصوص تقف قصيدة عبد الله محمد خير التي حملت سر التومات ها وها تلك البنتان اللتان كانتا من لحم الحياة لا من خيالها وكان وجودهم في بيت صديقه القريب شرارة اضاءت النص وفتحت امام الشاعر نافذة عجيبة من الدهشة والبراءة والجمال فكان يقول خلهن سوا لا تفرقن يا الله توماتي انا بعشق وكأن الدعاء يخرج من قلبه لا من لسانه وكأن الخوف على اكتمال الصورة خوف على الحياة نفسها.

كانت التومات حقيقتين تمشيان على الارض طفلتين في عمر الطاشرات مفعمتين بالمرح والاضواء تحضران للمتجر بخطوات خفيفة مثل الريح وكان الشاعر كلما رآهما يضيع بين الملامح فلا يفرق بين هذي وتلك  ينادي الاولى فتجيبه الثانية ويضحكن معا ضحكة تشبه الرنين وكانت هذه اللحظات الصغيرة هي التي صنعت عالم القصيدة عالم لا يلتقط فيه الشاعر الحدث بل يلتقط روحه لا يسجل الواقع بل يعيد تشكيله ببصيرته التي ترى ما خلف الصورة ولا تكتفي بسطحها.

ولكي نفهم سر النص علينا ان نمشي في جغرافيا الشاعر نفسه بين الجابرية والككر والدبة  ارتموقة  الكتلت عشوقة كما قال جاد الله عثمان القرية الوادعة الوريفة مكان ميلاد الشاعر ابراهيم شاعر ارتموقة الذي مضي سريعا كالبرق رحمه الله من تلك الامكنة التي كانت ذاكرة طينية ممتلئة برائحة النيل وصوت السواقي وعشب الضفاف ودفء البيوت القديمة هناك ظهرت التوام في حياته ربما في طريق المدرسة وربما  وربما في زيارات عائلية متكررة تجمعه بوالدهما وكما كان الشاعر يخاف ان تبعد احدي التوام  مبكرا بالزواج او بالسفر فتبقي الاخرى وحيدة وكان الشاعر يرى هذا الفراغ مثل شق في صفحة الماء فتفجر منه دعاؤه خلهن سوا كأنه يريد ان يوقف الزمن للحظة يحفظ ما تبقى من التناغم قبل ان تبتلعه الايام.

ولم يقف الامر عند حد الرواية فقد امضيت يومين ابحث واسأل واتنقل بين الذين عرفوه وعاشوا معه وتواصلت بمساعدة الاخ بابكر ابن اخت الشاعر وصديقه ورفيق غربته لسنوات طويلة بل كان كعصاه التي يتوكأ عليها وبه ومعه تواصلنا بالحسينابي ود توفيق ود محمدين وآخرين من الذين رافقوا الشاعر او سمعوا منه مباشرة فكانت افاداتهم كلها تؤكد وجود التومات لا بوصفهما ظلا او وهما بل بوصفهما حياة كاملة مرت امام عينيه وتركت به دهشة لا تمحى وقد اختلفت التفاصيل لكن الحقيقة كانت واحدة تتكرر على السنتهم مثل حكاية صارت جزءا من وجدان المكان
وغرابة التجربة ان موضوع عشق التوام لم يرد في الشعر السوداني قبله ولا بعده وكان عبد الله محمد خير كأنه يفتح بابا لم يقترب منه شاعر آخر لا قبله ولا خلفه فوحدها هذه القصيدة كانت ثمرة وحيدة على شجرة عملاقة ثمرة لا شبيه لها ولا مثال عليها ولهذا بقيت مغرية ومفتوحة للتأويل كلما تقدمت السنين وابتعد الزمن.

ومع ان التومات كانتا موجودتين فعلا فإن القصيدة عبرت الواقعة الى الرمز وصارت الثنائية عند البعض رمزا لثنائيات الشمال كلها الارض والنيل الطفولة والشباب الحنين والفقد الذاكرة والرحيل وكأن دعاء الشاعر كان دعاء للوجود كله لا للتوام وحدهما دعاء بأن تبقى الاشياء مكتملة لا ينقصها نصفها ولا تنقسم الى جزأين كل منهما لا يكتمل الا بالآخر.

ولم يكتب عبد الله محمد خير قصيدته بروح الفلسفة بل بروح القلب كان الشعر عنده لقاء لحظة بلقاء حياة لم يكن يقف عند التحليل بل كان يرى بالنبرة لا بالفكرة ويرسم بالصوت لا بالمنطق ولهذا بقي النص حيا يتجدد في كل قراءة وكأنه يكتب نفسه من جديد في كل مرة
واليوم بعد مرور السنوات لا تزال التومات احدى اعمق الصور في الشعر الشايقي صورة خرجت من بيت صغير فصارت جزءا من التراث خرجت من ضحكة طفلتين فصارت سؤالا لا يهدأ خرجت من موقف انساني صغير فصارت نصا لا يموت ولسنا نسأل اليوم هل كانت التومات حقيقيات فهذه مسألة مفروغ منها بل نسأل كيف استطاع الشاعر ان يرفع وجودهما من سطح الحياة الى قمة الشعر وكيف استطاع ان يصنع من لحظة عابرة نجمة لا تنطفئ.

رحم الله عبد الله محمد خير ورحم الله صديق احمد وحسن الحلو وكل الذين عبروا دروب الشعر والوفاء وتركوا لنا نورا يلمع كلما اعدنا قراءة قصيدة التومات وكلما تذكرنا ان بعض الجمال واقعي حد الدهشة..
وواقعي حد الاسطورة معا..

وشكرا د. توفيق ود محمدين والاستاذ الحسينابي وبابكر وكل مجايلي واصدقاء عبد الله محمد خير الذين ظلوا امتدادا لنبضه وروحه ولولاهم لما بلغنا هذا الجمال ولما فهمت الاجيال من هو عبد الله محمد خير
شكرا لكم جميعا وبكم وعبر رئتكم نتفس هذا الجمال..

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.