هل التهمت حرب السودان أهداف ثورة ديسمبر وما مصير شعاراتها؟

الغد السوداني _ متابعات

مع احتدام الحرب وتصاعد نيرانها في إقليم كردفان عقب سقوط مدينة الفاشر في قبضة قوات “الدعم السريع”، وازدياد وتيرة المبادرات الدولية والضغوط السياسية والدبلوماسية لوقف الحرب والتسوية السياسية بالعودة إلى المسار المدني الديمقراطي، يبرز عديد من التقاطعات والاستفهامات حول موقع ثوار و”ثورة ديسمبر” (كانون الأول) 2018-2019، وأسباب التضاؤل المستمر لدور قادة الثورة بسبب الحرب الراهنة التي هزت كل ركائز المشاركة السياسية والاقتصادية بالسودان. فكيف تفاعلت الثورة والثوار مع الحرب وماذا تبقى منها إلى اليوم؟

الثورة والحرب

في السياق أوضح مستشار رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك والمتحدث سابقاً باسم تجمع المهنيين السودانيين أمجد فريد أن “ثورة ديسمبر لم ولن تفنى، فهي انطوت على تضحيات عظيمة كتبها شعب السودان للانعتاق من فاشية النظام السابق وهي ليست ملكاً لاحد ليسخرها في خدمة فاشية جديدة”، وتابع “ربما يكون انحياز بعض القوى السياسية التي كانت محسوبة على معسكر الثورة وتماهيها مع أجندة دولة الإمارات ومحاولتها استغلال زخم الثورة لتبرير الجرائم التي يستمر جنجويد (الدعم السريع) في ارتكابها ضد السودانيين قد منح الفرصة لبعض الجهات المنتمية للنظام السابق لإعادة تقديم أنفسها وتأليب الناس ضد الثورة والثوار”، ولفت فريد إلى أن أحد أبرز شعارات الثورة، العسكر إلى الثكنات و”الجنجويد” يحل، الذي ينعكس في المطلب بإصلاح المؤسسة العسكرية، وحل قوات “الدعم السريع”، يبقى المخرج الأساس من كارثة الحرب التي تبتلع السودان حالياً”. وأضاف “الثورة لم تكن ملكاً لأحد ولم تمنح أحد شيكاً على بياض، وما يقوم به بعض السياسيين من انحياز للقوات والدفاع عن الإمارات أمر محسوب عليهم وليس على آمال وتطلعات الشعب السوداني في الحرية والسلام والعدالة”، وأشار المستشار السابق “إلى أن التعديلات التي طاولت الوثيقة الدستورية لسنة 2019 على رغم أن بعضها كان مبرراً، لكن البعض الآخر كان يعكس النزعة السلطوية لدى بعض الأحزاب التي سمت نفسها بالحاضنة السياسية وحاولت استبدال البرلمان بالتوافق والصفقات في ما بينها، مما أسهم في خلق الشقاق بين قوى الثورة نفسها وتحويل الفترة الانتقالية من فترة إصلاح سياسي وإداري وفني لجهاز الدولة، إلى مرحلة تنافس على النفوذ لا يتقيد حتى بمبادئ وقيم الديمقراطية الأساسية”.

ظلال وتأثيرات

من جانبها رأت عضوة المكتب المركزي لتجمع “لجان مقاومة الحاج يوسف” في الخرطوم سوسن جمعة موسى “أن الحرب ألقت بتأثيرات وظلال عميقة على ثورة ديسمبر، بتدمير كل ما بنته من تغيير في المفاهيم والوعي بالحقوق المدنية والسياسية، بخاصة في ما يتعلق بعسكرة المجتمع والحياة السياسية وقضايا المواطنة المتساوية والفساد المالي والإداري”، وأشارت موسى إلى أنه على رغم الانقسام السياسي والمجتمعي والاصطفاف المناطقي واستخدامه لتعميق انقسامات التيارات الثورية وسط شباب ديسمبر، “فإنه لا يزال هناك عدد كبير منهم على قناعة تامة بالتغير وبأهداف الثورة ويعمل من أجل العودة بها إلى منصة التأسيس مع اختلاف التسميات والأدوات”. وأضافت “وضعت ثورة ديسمبر أساساً قوياً لضمان وحدة السودان وقيام جيش وطني مهني موحد، ضمن أبرز أولويات برنامج الإصلاح الأمني والعسكري والاقتصادي، تفادياً للوقوع مرة أخرى في مصيدة الحرب وعسكرة الحياة المدنية، لكن بتعديلات الوثيقة الدستورية عام 2019، تم ضرب هذه الجهود وأقحمت البلاد في حرب شاملة وفتحت الأبواب أمام صراع المصالح والتدخلات الخارجية”. وأوضحت “أن 75 في المئة من عضوية تلك اللجان كانت من الشباب وتعد صمام أمان الثورة، بينما تمثل الـ25 في المئة الأخرى العقول المستقلة فكرياً من أصحاب التجارب والخبرات القادرة على حل مشكلة السودان، وفق دراسة أجراها مركز كارتر”، واستطردت أيضاً “لكل لذلك ولتصعيب أي حراك سياسي داخلي مستقبلي، يتم استهداف الشباب بواسطة السلطات الحالية، سواء من لجان المقاومة والمجموعات المدنية والثورية الأخرى، بالقتل المباشر والاعتقالات وغيرها من أساليب القمع السياسي والأمني، وباستخدامهم مباشرة كوقود للحرب عبر الاستنفار والفزع من أطراف الحرب، مع استمرار محاولات تفتيت تلك اللجان وتحييد دورها واتهامها بالعمالة”. واستبعدت موسى تلاشي مبادئ أو انتهائها.

العدو الأول

في سياق متصل أوضح المحامي في مجال حقوق الإنسان والقيادي في “قوى الحرية والتغيير” المعز حضرة “ثورة ديسمبر من ثورات السودان العظيمة التي أبهرت العالم ولفتت أنظاره بإعجاب كبير كونها ثورة سلمية أسقطت نظاماً أيديولوجياً حكم وتمكن في البلاد مدة 30 عاماً، فضلاً عن كونها تمثل امتداداً لثورات تاريخية تؤكد طبيعة الشعب السوداني المحبة للحرية والديمقراطية والحكم المدني، على رغم قمع الأيديولوجيات العديدة يميناً ويساراً”، وأضاف “يعتبر الإسلاميون أن ثورة ديسمبر وشبابها الذين تمثلهم لجان المقاومة، هم عدوهم الأول بأكثر من عداوتهم للدعم السريع، لذلك كانت الثورة ورموزها في مقدم من تم استهدافهم بالقتل والملاحقات والذبح وقذف جثثهم في النيل، وعلى رغم المحاولات العديدة لوأد الثورة تحت مظلة الحرب إلا أنها ستفشل كلها، فهي شعلة روتها دماء شباب، فضلاً عن أن التاريخ يؤكد أن إرادة الشعوب لا تقهر بمثل تلك الأفعال، مهما استهدفهم الإسلاميون وتحت أي مظلة كانت”. ورأى “أن انقلاب البرهان (قائد الجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة الانتقالي عبدالفتاح البرهان) في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2021، شكل تقويضاً كاملاً للوثيقة الدستورية، بالتالي فإن أي تعديلات أخرى عليها ليست ذات مغزى، على رغم أنها سعت لتكريس حكم الفرد بوضع كل السلطات الثلاث في يد قائد الجيش، بغرض القضاء على أي مظهر من مظاهر ثورة ديسمبر”.

وتعرضت الوثيقة الدستورية التي نشأت بموجبها أول حكومة انتقالية بالشراكة بين الشقين العسكري والمدني لتعديلات عدة أنهت الشراكة المدنية – العسكرية، ثم منح التعديل الأخير في فبراير (شباط) عام 2025، مجلس السيادة سلطات واسعة، في تعيين وإعفاء رئيس الوزراء وحكام الأقاليم والولايات، ورئيس القضاء وأعضاء المحكمة الدستورية.

وأشار حضرة إلى أنه “تحت وطأة الاستهداف العنيف لشباب الثورة غادر بعضهم البلاد إلى خارج السودان ومنهم لا يزال موجوداً بالداخل لكنهم واقعون تحت طائلة استهداف كتائب الإسلاميين وما يسمى الخلية الأمنية، فالحرب أشعلت أساساً بغرض عودتهم للسلطة مهما كان الثمن حتى ولو بانفصال دارفور، وكانوا يعتقدون أن الحرب ساعات وأياماً لكنها استمرت سنوات غرقت خلالها البلاد في الدماء والخراب”.

غياب المشروع

على الصعيد نفسه رأى المتخصص في مجال العلوم السياسية الريح علي عبدالكريم أن “ثورة ديسمبر نجحت بالفعل في تحقيق شعارها (تسقط بس)، ومفردة بس عند السودانيين تعني (فقط)، باقتلاع نظام عمر البشير، لكنها لم تكن تمتلك مشروعاً سياسياً متكاملاً، إذ سرعان ما انفجرت الخلافات داخل محركها السياسي الرئيس (تجمع المهنيين السودانيين) وتشرذم وعصفت به الخلافات، وهذا الواقع هو ما استغله أعداء الثورة من النظام السابق كنقطة ضعف رئيسة للانقضاض عليها، وفاقم هذا الوضع تراجع الدور السياسي الفاعل للقوى التي قادت الثورة، بسبب التصدعات داخل مكونات قوى الحرية التغيير، التي انحاز بعضها للجيش وفرط في الشعارات، وتعاطف آخرون مع (الدعم السريع)، بينما حاول تيار ثالث البقاء في خانة الحياد، هذه الانقسامات أضعفت وحدة الحركة المدنية وقدرتها على مواصلة إدارة التغيير في غياب قيادة موحدة للثوار تمثل المدنيين فعلياً”.

انهيار وتشتت

أضاف عبدالكريم “كان لا بد للحرب أن تؤثر في مسار الثورة عقب انهيار مؤسسات الدولة وحال الشلل التي ضربت العمل المدني والسياسي، ونتيجة لتحول أولويات الناس للبقاء على قيد الحياة بسبب الجوع والنزوح الجماعي، وأن كثيراً من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني تشتتت وتوقفت بسبب القتال والفوضى. وبعكس ما كانت تنشده وتطالب به ثورة ديسمبر في حكم مدني ديمقراطي، بدأ إقرار واقع يتناقض مع الفكرة الديمقراطية والسلمية، ما قوض الأسس التي قامت عليها مطالب الثورة في بناء دولة مدنية”. وبين أنه على رغم ظروف الحرب والحملات الأمنية ضدها، “لكن كثيراً من لجان المقاومة والناشطين لم تتخل عن روح الثورة في المواجهة السلمية، وتوجهت نحو العمل القاعدي المدني، وباتت رمزاً للتغيير، ما يمكن اعتباره استمراراً فعلياً للثورة لكن ليس في شكل احتجاجي بالشوارع كما كانت قبل الحرب، بل في شكل إنساني – مدني يحفظ لها شرعيتها الشعبية”.

وبشأن سيناريوهات ما بعد الحرب، في ظل استمرار الرفض الشعبي للحكم العسكري وتفتت وضعف الأحزاب التقليدية رجح عبدالكريم “بقاء الثورة كقوة مجتمع مدني بصعود الشبكات المحلية المستقلة، واستمرار غرف الطوارئ ولجان المقاومة كقواعد شعبية منظمة، وتحولها بعد الحرب إلى نواة لعمل مدني قاعدي أكثر مؤسسية وتنظيماً، مع بقاء شعار الحرية والسلام والعدالة، كهوية اجتماعية لها قبل تحولها لاحقاً إلى قوة سياسية”.

إطاحة الشراكة
وانطلقت احتجاجات “ثورة ديسمبر” في السودان عام 2018 وانتهت بإطاحة نظام البشير والمؤتمر الوطني عام 2019، وبموجب وثيقة دستورية للشراكة بين الجيش وقوى “إعلان الحرية والتغيير” في العام نفسه، تشكلت مؤسسات الفترة الانتقالية على رأسها مجلس السيادة الانتقالي وحكومة انتقالية.

وفي الـ25 من أكتوبر عام 2021 أعلن قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان حال الطوارئ في السودان، وحل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين، وتعليق العمل ببعض بنود الوثيقة الدستورية وأطاح الشراكة مع المدنيين في “قوى الحرية والتغيير”.

وفي الخامس من ديسمبر عام 2022 تم توقيع “الاتفاق الإطاري” بين المكون العسكري وقوى سياسية مدنية، بهدف وضع أسس لحل الأزمة السياسية وإنهاء الحكم العسكري واستئناف عملية الانتقال السياسي لتقود البلاد نحو حكم مدني ديمقراطي، بإطلاق عملية شاملة للعدالة الانتقالية ومحاسبة مرتكبي الجرائم وتفكيك نظام المؤتمر الوطني، واستكمال تنفيذ اتفاق جوبا للسلام ووضع دستور جديد، وصولاً لتنظيم انتخابات عامة شفافة. ولاحقاً تحول الاتفاق إلى إحدى نقاط الخلاف الرئيسة التي أدت إلى تفجر الحرب بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” منتصف أبريل (نيسان) عام 2023، بخاصة البنود المرتبطة بالإصلاح الأمني والجدول الزمني لدمج “الدعم السريع” في الجيش.
“نقلاً عن اندبندنت عربية”

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.