“نحو صياغة مشروع وطني للإصلاح بعد الحرب في السودان”

دروس وعِبَر من تجربة الإصلاح الاقتصادي الانتقالي

“نحو صياغة مشروع وطني للإصلاح بعد الحرب في السودان”

بقلم وزير المالية والتخطيط الاقتصادي الأسبق بروفيسور ابراهيم أحمد البدوى عبد الساتر

﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ ﴾[الحجر:56]

عن ابن مسعود – رضي الله عنه- قال: (الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله – وفي رواية – أكبر الكبائر) [رواه الهيثمي وقال: إسناده صحيح]

تمهيد

أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع الفتن، وقال كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وغيره: “يكون بين يدي الساعة فتنٌ كقطع الليل المظلم”. وإي والله، إنها الفتن التي جاءت فأطبقت علينا كقطع الليل الداهم، وخيَّمت على فضاءات بلادنا منذ اندلاع هذه الحرب الكارثية. لذلك ليس مستغرباً أن تطغى متابعة يوميات القتال وما يصاحبها من جرائم وانتهاكات، وما يتخللها من مبادرات حميدة لإنهائها، على المشهد السوداني برمته. غير أنّ الهدي القرآني الكريم، والسنة النبوية المطهرة، يأمراننا ألا نيأس من روح الله، فالقنوط من رحمته من أكبر الكبائر. ومن ثم فإن واجبنا، ونحن في خضم هذا البحر اللُجي من الفتن والويلات، أن نفكر ونتدبر في ما أعددناه لليوم التالي حين تضع هذه الحرب أوزارها.

ولعل من أهم الاستحقاقات الوطنية لهذا اليوم التالى ما يتعلق بالاقتصاد، ولهذا نخصص هذا المقال، وما سيتبعه من مقالات، لقضايا البرنامج الإسعافي للتعافي وإعادة الإعمار، ولآفاق وضع البلاد على مسار الانتقال الاقتصادي النهضوي. وتكون البداية بتقييم تجربة الإصلاح الاقتصادي للحكومة الانتقالية عقب ثورة ديسمبر المجيدة، واستخلاص الدروس والعبر لما بعد الحرب.

إن تجربة الإصلاح الاقتصادي خلال الفترة الانتقالية (2019–2021) تشكل محطة مفصلية في تاريخ الاقتصاد السوداني الحديث؛ إذ قُدِّمت لأول مرة منذ عقود رؤية وطنية متكاملة لمعالجة التشوهات الهيكلية التي ورثها السودان عن نظام الإنقاذ. وقد ارتكزت تلك الرؤية على نموذج سوداني من فكر “الديمقراطية الاجتماعية” الاقتصادى يوازن بين متطلبات الاستقرار الاقتصادي وواجبات العدالة الاجتماعية، ويسعى إلى الانتقال من نهج دعم السلع إلى تمكين المواطن، ومن الاقتصاد الريعي الطفيلي إلى اقتصاد منتج قادر على تحقيق النمو عريض القاعدة وتوفير فرص العمل وتوسيع الحماية الاجتماعية. ورغم أن التجربة لم تُمنح الزمن السياسي الكافي لاستكمال تحولها المؤسسي، فإنها خلّفت دروساً ثرة تصلح اليوم أساساً لمشروع إصلاح اقتصادي جديد لما بعد الحرب.

تهدف هذه الورقة إلى استخلاص تلك الدروس، وصياغتها في إطار متكامل يصلح ليكون نواة لبرنامج اقتصادي جديد، يواكب تحديات ما بعد الحرب ويضع البلاد على مسار التعافي، السلام، وإعادة الإعمار.

أولاً: ما هى مرتكزات الفكر الاقتصادى لدولة “الديمقراطية الاجتماعية”

كباحث اقتصادى تبنيت مفهوم “الديمقراطية الاقتصادية” وكتبت عنه وبشرت به قبل الثورة وبعد الثورة المجيدة أُتيحت لى فرصة – كوزير للمالية والتخطيط الاقتصادى فى حكومة الثورة – البناء عليه كمرجعية فكرية لمشروع الاصلاح الاقتصادى للحكومة الانتقالية. مفهوم “الديموقراطية الاجتماعية” كنظام سياسى- اقتصادى يهدف إلى المواءمة بين “آليات وانضباط السوق” من جهة واستحقاقات مشروع دولة الرعاية الاجتماعية الشاملة من جهة أخرى. آليات السوق هامة لأنها تحقق الاستدامة على صعيد الاقتصاد الكلى ومعايير التنافس الحر وتقييم الأداء حسب مؤشرات موضوعية على مستوى المنشئات والاقتصاد الجزئى. هذا بالطبع لا يعنى غياب الدور الفاعل للدولة، حيث أن تمكين الأسواق من لعب هذا الدور يتطلب وجود الدولة “الناظمة” التي تمارس دورها القيادى في سن القوانين وبناء المؤسسات القمينة بمكافحة الاحتكار ودعم تنافسية الأسواق واكتمالها. بالمقابل الضلع الآخر من معادلة الديموقراطية الاجتماعية يعنى بتوفير الإمكانيات التمويلية والمؤسسية اللازمة لتوفير الخدمات الاجتماعية الأساسية (التعليم والصحة والمياه) إضافة إلى تمكين المجتمع من الحصول على هذه الخدمات وغيرها من استحقاقات الرعاية الاجتماعية الأخرى (التامين الصحى الشامل، فوائد ما بعد الخدمة، الإسكان، الدعم النقدى المباشر … إلخ). اكتسب هذا النظام الاقتصادى – الاجتماعى قبولاً واسعاً في أدبيات وحوارات التنمية، حيث برزت تجربة الدول الإسكندنافية كمثال يحتذى حتى بالنسبة لأمريكا والدول الصناعية الكبرى، إضافة إلى الدول الناشئة مثل فيتنام والتشيلى (أنظر مقال بروفسور جيفرى ساكس، المفكر الاقتصادى الأمريكي المعروف)(1) .

المرتكزات الرئيسة لمشروع الإصلاح الاقتصادى وفق هذه الرؤية تشمل:

أ. احترام توازنات الاقتصاد الكلى الأساسية المرتبطة بمتطابقة الناتج المحلى وذلك لتحقيق الاستقرار الاقتصادى والاستدامة المالية (معدلات تضخم منخفضة، معدلات معتدلة لكلفة التمويل وأسعار صرف موحدة ومستقرة):

تفادى عجوزات كبيرة ومتسارعة في الموازنات المالية الحكومية (الإيرادات – المصروفات) والحساب التجارى (الصادرات – الواردات)

عدم الإفراط في الاستدانة (الداخلية والخارجية) لتمويل فجوات الموازنات الكلية أو فرض “الهيمنة المالية” على السياسة النقدية عن طريق التوسع النقدى بواسطة البنوك المركزية لتمويل المصروفات الحكومية (ما عدا في حالات استثنائية عندما تتعرض السياسة المالية لصدمات خارجية، كما في حالة جائحة الكورونا وآثارها السلبية على تعبئة الإيرادات، إضافة إلى المصروفات الإضافية لدعم القطاع الصحى أو لتمويل برامج الحماية الاجتماعية المترتبة على الإغلاق)

ب. اعتماد سياسة صناعية أفقية متينة تعزز دور الدولة في قيادة الإصلاح الاقتصادى والتحول التنموى:

تخصيص الموارد الكافية لبناء رأس المال المادى والبشرى (البنيات التحتية لخدمات التعليم والصحة والمياه، الطرق، الكهرباء … الخ)

تطوير القدرات المؤسسية للدولة الناظمة لبناء الأسواق وتنظيم أنشطة القطاع الخاص ودعم إنتاجية وفعالية تخصيص الموارد على مستوى الاقتصاد الجزئى (مثل قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات وأيضاً المشاريع والشركات)

ت. انتهاج سياسية صناعية رأسية محسوبة لارتياد مجالات إنتاجية وخدمية تؤسس لنقلة نوعية في الاقتصاد والتي عادة ما تتطلب تقنيات عالية أو استثمارات كبيرة تفوق قدرات القطاع الخاص، ولكنها ضرورية لتمهيد الطريق للأخير لارتياد القطاعات النوعية على نطاق واسع في المستقبل

ث. بناء عقد اجتماعى يستند إلى نظام مستدام، عادل وشامل للرعاية الاجتماعية (التأمين الصحى، الضمان الاجتماعى، برنامج الدعم النقدى المباشر للأسر، الوجبة المدرسية المجانية …إلخ):

الانتقال من دعم السلع لتمكين المواطن مباشرة لتحقيق الاستدامة المالية وكفاءة تخصيص الموارد “المحدودة” بكفاءة وعدالة

أيضاً يتطلب نظام الرعاية الاجتماعية الشامل توفر الدولة على موارد كافية، مما يتطلب تعبئة موارد تستند إلى نظامٍ ضريبىٍ عادلٍ وواسع القاعدة – (هناك توافقاً بين خبراء السياسة المالية العامة بأن الحد الأدنى للإيرادات الضريبية لكى تتمكن الدولة من الإيفاء بمسئولياتها المالية يقدر بحوالي 15% من الناتج المحلى الإجمالى، بينما الدولة التي لا تستطيع توفير هذا الحد الأدنى توصم بأنها دولة رخوة: fragile state – لم تتعدى هذه النسبة 6% فى ظل نظام الإنقاذ البائد)

ثانياًً: الدروس والعِبَر من التجربة الانتقالية للإصلاح الاقتصادي

أول الدروس المستفادة أن أي مشروع إصلاحي قابل للتطبيق لا بد أن يبدأ بإزالة التشوهات الكلية العميقة التي شكلت جوهر الأزمة الاقتصادية السودانية لسنوات طويلة. فقد أثبتت التجربة أن استمرار الدعم السلعي، وخاصة دعم المحروقات، وتعدد أسعار الصرف وهيمنة السوق الموازي، كان يعني عملياً بقاء الاقتصاد تحت رحمة زبانية النشاط الطفيلي، والتهريب، والمضاربات، وسوء تخصيص الموارد. غير أن معالجة هذه التشوهات تتطلب “عملية جراحية محسوبة”، تأخذ في الاعتبار التدرج، وحماية الفئات الضعيفة، وربط الإصلاح الاقتصادي بجهاز حماية اجتماعية فعال.

من الدروس المهمة أيضاً أن الدعم السلعي لم يكن يوماً أداة فعّالة للحماية الاجتماعية، بل شكّل عبئاً هائلاً على المالية العامة وعلى بيئة الاقتصاد الكلي. فقد كان الجزء الأكبر من دعم الوقود يُستهلك بواسطة الفئات المقتدرة ويُهرَّب عبر الحدود، بينما لم يصل سوى جزء يسير منه إلى المستحقين الحقيقيين. ومن هنا برزت أهمية الانتقال من دعم السلع إلى دعم الأسر عبر التحويلات النقدية المباشرة، وهو تحول لا يحقق العدالة الاجتماعية فحسب، بل يحرّر الاقتصاد من أحد أكبر مصادر التشوّه والفساد. كذلك، وفي حالة السودان على وجه الخصوص، فإن مشروع دعم الأسر لا يُعد مجرد أداة فعّالة لمكافحة الفقر كما أثبتت العديد من التجارب، بل يشكّل أيضاً ركناً من أركان العقد الاجتماعي الداعم للسلام، بالنظر إلى أن الأقاليم المتأثرة بالحروب والنزاعات (دارفور، جنوب كردفان، جنوب النيل الأزرق، البحر الأحمر) هي الأكثر معاناة من انتشار الفقر وحدّته، رغم أن غالبية المواطنين في كل أنحاء السودان يقعون تحت خط الفقر.

كما برهنت التجربة على أن توحيد سعر الصرف وتعويمه بصورة مدروسة ليس خياراً “مستجلباً” أو “مفروضاً”، بل كان ضرورة وطنية ملحة، لأن الاستمرار في تثبيت سعر صرف إدارياً في اقتصاد يعاني من فجوة تمويلية تفوق خمسة مليارات دولار سنوياً قاد مباشرة إلى ازدهار السوق الموازي واختلال ميزان المدفوعات وإضعاف تنافسية الصادرات. وقد أثبتت التجربة الدولية، وتجربة السودان أيضاً، أن التعويم المصحوب بإجراءات حماية اجتماعية وإصلاحات هيكلية يعيد التوازن للسوق، ويحفز التصدير، ويقطع الطريق أمام الفساد والتهريب.

ومن أهم العبر التي كشفتها التجربة الانتقالية أن التحول الرقمي ليس رفاهية ولا مشروعاً تقنياً إضافياً، بل هو أسٌّ من أسس العقد الاجتماعي الجديد. فقد وفّرت عملية بناء قواعد البيانات الوطنية وإطلاق برنامج دعم الأسر عبر الهواتف المحمولة قاعدة عملية لإدارة الدعم وسياسات الحماية الاجتماعية بكفاءة وشفافية غير مسبوقة. كما فتحت آفاقاً لبناء دولة حديثة تقدم خدمات متطورة للمواطن وتعزز الشفافية والفعالية الحكومية.

تؤكد التجربة كذلك أن الإصلاح الاقتصادي ليس مشروع وزارة أو حكومة انتقالية فحسب، بل هو مشروع عقد اجتماعي يحتاج إلى توافق وطني واسع. غير أن فشل القوى السياسية داخل تحالف الحرية والتغيير في بناء هذا التوافق أدى إلى إضاعة وقت ثمين، وإتاحة الفرصة لقوى الثورة المضادة لـ”شيطنة” السلطة الانتقالية برمتها، في حين مارست بعض القوى من داخل التحالف ذاته تصعيداً إعلامياً “تطفيفياً” لا يسنده علمٌ ولا كتابٌ منيرٌ(2). ومع ذلك، ولولا انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 المشؤوم، لكانت البلاد على وشك تحقيق إنجاز تاريخي يتمثل في إعفاء أكثر من خمسين مليار دولار من ديون السودان البالغة نحو ستين ملياراً، في إطار مبادرة الدول المثقلة بالديون (Highly Indebted Poor Countries: HIPC)، والعودة إلى الاندماج في الاقتصاد الدولي، وجذب الاستثمارات المؤسسية، ونيل استحقاقات السلام والتنمية.

أثبتت التجربة أيضاً أن البرنامج الذي طُرح لم يكن “روشتة جاهزة” من مؤسسات التمويل الدولية، كما ادّعى ويدّعي «المطفِّفون» السابقون واللاحقون، بل كان مشروعاً وطنياً خالصاً يستند إلى فلسفة الديمقراطية الاجتماعية، وإلى رؤية تقوم على التوازن بين الاستقرار الكلي والعدالة الاجتماعية. ويجدر التذكير بأن برنامج الهيكل الراتبي أُنجز قبل بدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، كما كان برنامج دعم الأسر برنامجاً سودانياً محضاً “وجهاً ويداً ولساناً”، تجاوب معه المجتمع الدولي ودعمه بما يقارب 800 مليون دولار. وقد أشرتُ سابقاً إلى أنه، بعد انقضاء الفترة الانتقالية، كان ينبغي الحفاظ على هذا البرنامج وتمويله من أموال دافع الضرائب السوداني، مع توظيف جزء من منحة دعم الموازنة (المقدّرة بأكثر من مليار دولار سنوياً) التي كانت ستحصل عليها البلاد من “برنامج المساعدة الإنمائية الدولية” (International Development Assistance: IDA) التابع للبنك الدولي. وعليه، تميّز هذا البرنامج بروابطه الفكرية مع تجارب ناجحة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية (إثيوبيا، التشيلى، فيتنام، الصين) التي بدأت بإصلاحات كلية جذرية أعقبتها سياسات صناعية إنتاجية مهّدت للتحولات الهيكلية العميقة التى شهدتها اقتصاداتها(3).

ثالثاً، خاتمة:

تكشف تجربة الإصلاح الاقتصادي الانتقالي أن السودان كان قريباً من تحقيق تحول اقتصادي تاريخي، لولا غياب التوافق السياسي وتغوّل الحملات الشعبوية التي شوّهت حقائق الإصلاح وعرقلت مساره. وتؤكد الدروس المستخلصة أن بناء مشروع اقتصادي جديد لما بعد الحرب يتطلب العودة إلى الأسس التي قامت عليها تلك التجربة: إصلاح التشوهات الكلية، وتوحيد سعر الصرف، والتحول من دعم السلع إلى دعم المواطن، والاعتماد على الشباب كقوة عمل والرقمنة كأداة لإدارة الدولة الحديثة، وإطلاق سياسة صناعية تعيد للاقتصاد السوداني طاقته الإنتاجية.

إن الانتقال الاقتصادي المنشود بعد الحرب ليس مجرد سياسات مالية أو نقدية، بل هو تأسيس لعقد اجتماعي جديد يربط بين السلام والتنمية والعدالة الاجتماعية، ويعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة. ويمثل هذا الإطار – المستند إلى فكر الديمقراطية الاجتماعية وتجارب الأمم الناجحة – أرضية صلبة لصياغة مشروع وطني جامع يعيد السودان إلى طريق التعافي، ويؤهله للاندماج في الاقتصاد الدولي، وجذب الاستثمارات، وإطلاق مسار نهضوي يليق بإمكاناته وموارده وشعبه.

——————

راجع مقال بروفيسور جيفرى ساكس عن دروس دول الشمال فى سياق الديمقراطية الاجتماعية: https://www.project-syndicate.org/commentary/lessons-from-the-north

أنظر مقالنا فى هذا الرابط عن هذا موضوع الثورة بين أباطيل “الشيطنة” وتجنيات “التطفيف”:

وزير المالية السابق بروفيسور إبراهيم البدوي يكتب.. حكومة الثورة بين أباطيل “الشيطنة” وتجنيات “التطفيف”

أنظر مقالاتى فى هذه الروابط عن تجارب أثيوبيا، التشيلى، فيتنام والصين:

https://alghadalsudani.com/17582/؛ https://www.alttahrer.com/archives/105499

https://alghadalsudani.com/17694/؛ https://www.alttahrer.com/archives/106662

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.