سندباد السودان… رحلة بدأت بتقشير البطاطس
أدب الرحلة في السودان قليل، لكن الأقدار شاءت في بدايات القرن المنصرم، أن تعرف العربية رجلاً يُدعى أحمد حسن مطر، “سندباد السودان” الذي طاف الدنيا في مئة رحلة، قدرها نصف مليون ميل، في الفترة ما بين عامي 1922 و1955، في وقت كان الخروج فيه من السودان ــ وإلى أوروبا تحديداً ـ بدعاً من الأمور!
لكن المؤسف، أن سندباد السودان توقف عن تدوين رحلاته بالتفاصيل في الثاني عشر من كانون الأول/ديسمبر لعام 1951، ولولا ذلك لكان بحوزتنا الآن مئة رحلة مُفصّلة عن كبريات الدول وصغيراتها، ورغم ذلك ظفرت المكتبة العربية بكتابه الأهم “سندباد من السودان… حول العالم في مئة رحلة ونصف مليون ميل”، الذي حُرّر وصدر عن دار نشر السويدي التابعة لمركز (ارتياد الآفاق) الخاص بالأدب الجغرافي، والواقع في أبوظبي.
أحمد حسن مطر… نشأة كوزموبوليتانية
“لا أذكر من طفولتي وحياتي الأولى إلا النزر اليسير، ولهذا فأنا أستعين برفيق صباي الأستاذ عبد القادر الأمين، وهو يؤرخ تلك الطفولة، ويقص عليك طرفاً من حياتي الأولى التي أظن أن 80% منها صح”.
هكذا ترك حسن مطر التعريف بنشأته لرفيقه عبد القادر الأمين، الذي قال: “وُلِدَ أحمد في مدينة أم درمان في اليوم الثاني من فبراير عام 1904، عن أب سوداني هو الحاج حسن إبراهيم علي عبده، وأم سودانية الحاجة آمنة بنت محمد”.
وفدَ جده الأكبر الحاج علي عبده، من المحلة الكبرى من مصر إلى السودان، في عهد الفتح الأول حوالي عام 1820م، ثم أنجب ابنه إبراهيم ـ جد أحمد ـ من زوجة لبنانية، وكان إبراهيم صديقاً حميماً للزبير باشا، ويعمل معه في التجارة، وأنجب إبراهيم بدوره الحاج حسن والد أحمد في الخرطوم، “الذي كان في عهد المهدية ملازماً للخليفة عبد الله التعايشي”، بحسب تعريف الأستاذ عبد القادر الأمين.
كانت أولى رحلات السندباد خارج السودان، بعد ولادته مباشرة، حين سافر برفقة والديه إلى الحجاز، وأقاموا بالمدينة المنورة، وهناك عمل الأب “كمسارياً للتذاكر في سكة حديد الحجاز… وحوالي عام 1911م عادت العائلة من الحجاز للسودان، عن طريق درعا والشام وحيفا ومصر، وأقاموا بمدينة وادي حلفا، حيث كان المرحوم اليوزباشي يوسف نجيب، والد اللواء محمد نجيب، رئيس جمهورية مصر سابقاً، مأموراً هناك، وكانت بينه وبين حسن مطر صداقة”، وفقاً لما أورده عبد القادر الأمين في مقدمته.
بدأت رحلات سندباد السودان، باستقلال باخرة هولندية، اختبأ فيها إلى أن خرجت في عرض البحر، حتى خرج من وراء أكوام الفحم، لكن زيّه الغريب لفت أنظار البحّارة، ويبدو أنهم رقّوا لحاله، فأرسلوه إلى المطبخ للعمل فيه
ويقول الأمين: “ونحن في السنة الثالثة الابتدائية، وكان المنهج يشمل جغرافيا القارات الخمس، واتسعت مداركنا وعرفنا الكثير عن العالم الخارجي، وأسماء العواصم، وكان الطالب منا يُطلب منه أن يقوم بسياحة على الخريطة تبتدئ مثلاً من باريس، وتنتهي في فلاديفوستك، عبر صحاري سيبريا، فكان صاحبنا (يقصد أحمد حسن مطر) من المبرزين في حفظ أسماء العواصم والمدن الكبيرة ذات الأهمية التي يجتازها في هذه الرحلة المجانية”.
يحكي الأمين أن أحمد حسن مطر كان له “شغف خاص بهذه الرحلات، وكم كان يتمنى أن يتمكن من تحقيق أمثال هذه السياحات في مستقبل أيامه، فما كنا نعزو هذا النزوع إلا لما انطبع في نفسه من صور البلاد التي شاهدها في تلك السن المبكرة، أو ما تركته تلك الرحلات التي كان والده يقوم بها في تأدية أعماله بين الشام والحجاز من آثار ظلت عالقة بذهنه”.
هارب يبحث عن شط
بدأت رحلات سندباد السودان، في حزيران/يونيو من عام 1923، باستقلال باخرة هولندية، اختبأ فيها إلى أن خرجت في عرض البحر، حتى خرج من وراء أكوام الفحم، لكن زيّه الغريب لفت أنظار البحّارة، فسألوه بلغة لم يفهمها، ويبدو أنهم رقّوا لحاله، فأرسلوه إلى المطبخ للعمل فيه، وكانت مهمته تقشير البطاطس!
وحين وصلت الباخرة إلى أول ميناء أرغموه على النزول، كما تقتضي قوانين البحار، فهبط إلى ميناء عدن، وفيها تفتّح وعي أحمد حسن مطر على السياسة مبكراً، فيقول عن تجربته في جِدة: “لمست أن هناك حركة استياء قوية مبعثها سوء الإدارة من بقايا الأتراك الذين لا زالوا في خدمة الشريف حسين، شريف مكة، والذي كان لا يزايل مكة مُطلقاً، وفداحة الضرائب، وتقصير الحكومة في دفع المرتبات، واضطراب حالة الأمن بفعل غزو البدو والحجاج وقتلهم وسلبهم، كما علمت أن حركة الاستياء هذه ما هي إلا إرهاصاً لقيام ثورة تتجاوب مع أخرى في الرياض يقوم بها الأمير في ذلك الوقت عبد العزيز آل سعود”.
رغم الخوف الذي سيطر على رحلة سندباد السودان في السعودية، لم يخل الأمر من طُرفة أفرد لها فصلا عنوانه “البسكليت كان رجسا من عمل الشيطان”
يروي سندباد السودان، أنه اندمج بين الثوار وحضر اجتماعاتهم السرية الليلية، أو كما يصفها: “هكذا تفتح ذهني لأول مرة بعد تركي بلادي إلى هذه الأجواء التي لا عهد لي بها”، لكن قُدّر لهذه الحركة أن تموت في مهدها، فداهمت الاجتماع شرذمة من ضباط الدرك، واقتادوه برفقة ثلاثة عشر رجلاً آخرين إلى المحاكمة، بعدها، تم تسليمه إلى القنصلية الإنجليزية في جدة، وبدورها تولت ترحيله إلى السودان، فيقول حسن مطر عن هذه التجربة المريرة في السعودية: “نجوتُ من المصير الذي تردّى فيه بقية رفاقي من الضباط، فمنهم من أعدِم، ومنهم من سُجِن”.
رغم الخوف الذي سيطر على رحلة سندباد السودان في السعودية، لم يخل الأمر من طُرفة أفرد لها فصلا عنوانه “البسكليت كان رجسا من عمل الشيطان”، ذكر فيه أن وكيل شركة “سنجر” لماكينات الخياطة أحضر دراجة ليركبها لتأدية أعماله في المدينة، “ولأول مرة خرج بها عصر يوم، فتلقفه الصبية في الشارع وأخذوا يحصبونه بالحجارة (…) باعتباره شيطاناً يركب حماراً من حديد أو (النصراني راكب حمار الحديد) كما كان الصبية يسمونه، ويصيحون من خلفه”!
طريق النصف مليون ميل يبدأ بتقشير البطاطس!
عاود حسن مطر الكَرّة في باخرة أخرى أنزلته في ممباسا بشرق إفريقيا، فما لبث أن وجد عملاً في مكتب ضابط الصحة، ومن هناك تعلّم اللغة السواحيلية، “اللغة السائدة في المعاملات في تلك البلاد مع اللغة الإنجليزية”، على حد تعبيره. لكنه لم يمضِ فيها أكثر من شهرين حتى تاقَ إلى الهجرة والمغامرة من حياة العمل الرتيبة في قيود الوظيفة التي تركها في السودان من أجلها، فسافر إلى جيبوتي، ومنها أخذ الباخرة إلى بورسعيد، ومنها إلى أوروبا، فأخذ الباخرة إلى مرسيليا.
هناك في مرسيليا، تعرف على رجل نوبي استضافه في منزله، ثم اتخذ حسن مطر لنفسه اسماً آخراً، ووقع اختياره على “فريدريك هربرت دي لندر”. وهكذا تنقل السندباد السوداني في أوروبا، ومنها إلى طنجة، ثم إلى مراكش، يتنقل من باخرة لأخرى، وفي كل مرة يكون ثمن التذكرة إما تقشير البطاطس، أو تنظيف النحاس والأطباق!
السندباد سياسياً!
“تفتحت عقليتي لأول مرة في تلك السن المبكرة على ما هو الاستعمار والمستعمرين بما ألقاه عليّ كفاح ذلك الشعب المجيد، شعب المغرب العربي، من درس في الوطنية وكان حافزاً لي فيما قمت به في سبيل تحرير بلادي، وأنا مغترب خاصة وجميع الشعوب المستعبدة عامة”.
هكذا يحكي أحمد حسن مطر عن لحظة انغماسه في السياسة متعمدا بعد تعرفه إلى الأمير عبد الكريم الخطابي ـ مُناضل مغربي ضد الاستعمار الإسباني ـ وعمل في خدمته، حتى أرسله الخطابي مندوباً في ألمانيا لشراء الأسلحة والمعدات الحربية وتهريبها للمغرب للنضال ضد الإسبان.
لم يحرم أحمد حسن مطر قارئ كتابه من ختام بديع لتلك الرحلة، بدأه بالسؤال: “من أنا؟”، فأجاب: “أول سائح سوداني ومن القلائل في العالم”
في يونيو 1924 كان السودان يعج بمظاهرات للتحرر ضد الإنجليز، فقرر السندباد السفر إلى لندن ليكون بصحبة الزعيم المصري سعد زغلول باشا، لينادي باسم بلاده “في عقر دار الإنجليز” على حد تعبيره.
حينها بدأ مطر يرسل خطاباته إلى المستر رامزي ماكدونالد ـ رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ـ منددا بسياسة إنجلترا الاستعمارية في مصر والسودان، ومستنكرا حوادث الإرهاب، ونشرت خطاباته في جريدة الأهرام المصرية، وكان يقرأها السودانيون.
توطدت علاقاته بالمصريين، فسافر إلى القاهرة وعاش بها مدة قصيرة، قطعتها أحداث مقتل السردار ـ القائد الإنجليزي للجيش المصري السير لي ستاك ـ حينها اشتبه في اشتراك السندباد في مقتل القائد الإنجليزي، ورغم أنه لم يُدَن في القضية أجبر على الرحيل من مصر، فاختار تذكرة سفر إلى البرازيل في أبريل سنة 1925م، وهناك كانت الصحافة ملاذه، فقدر له أن يكون رئيسا لتحرير جريدة “التساهل” الناطقة بالعربية.
وفي العالم التالي عاد مطر مرة أخرى إلى أوروبا وطاف بفرنسا وإيطاليا، ثم حط رحاله أخيراً في برلين، لينخرط في عدد من الجمعيات السياسية، ويلمع اسمه بها، قبل أن يرحل مجددا لأمريكا والاتحاد السوفييتي، والعودة لأوروبا مرة أخرى، ثم البرازيل وعدد من دول أمريكا اللاتينية، وهو لم يصل للثلاثين من عمره بعد!
مطر بقلم مطر!
من ميزات كتاب أحمد حسن مطر، هو نبوغ الحس الصحفي فيه، وإن طغى على الجانب المتعارف عليه للرحالة ـ حيث سرد المعلومات الخاصة بالبلد الذي زاره، أو وصف طباع أهله ـ فتجده يُقسّم الكتاب لعناوين فرعية أشبه بعناوين المواقع الإلكترونية حالياً، فمثلاً يحكي عن الأموال التي صرفها، تحت عنوان “45.600 دولار صرفتها على هواية السياحة”!
لم يحرم أحمد حسن مطر قارئ كتابه من ختام بديع لتلك الرحلة، بدأه بالسؤال: “من أنا؟”، فأجاب: “أول سائح سوداني ومن القلائل في العالم. وأول من أبرق رامزي ماكدونالد سنة 1924 رئيس الوزارة البريطانية في لندن، يطالب باستقلال مصر والسودان، ونُفيتُ على إثر ذلك. وأول من أسس جمعية مكافحة الاستعمار. أول سوداني نظّم مسابقة جمال أوروبية أمريكية”!
محمد الزلباني ـ رصيف22