قراءة فى “مذكرات إبراهيم منعم منصور” ونبوءة المفتش الإنجليزى عن فشل المشروع الوطنى السودانى
بقلم: وزير المالية والتخطيط الاقتصادي الأسبق بروفيسور ابراهيم البدوى عبد الساتر
“تفتكر يا شيخ منعم تقدروا تحكموا نفسكم إذا أصبح السودان مستقلاً ”
(المفتش الإنجليزى بمدينة النهود مستر بيتر هوق سائلاً الناظر منعم منصور عام 1954، قبيل إستقلال السودان)
صاحب المذكرات الراحل، السيد/ابراهيم منعم منصور، عليه الرحمة والرضوان، شخصية وطنية تحظى بتقدير كبير ويعتبر من أهم وأميز الشخصيات العامة من الجيل الثانى بعد إستقلال البلاد. وهذه المذكرات الفخيمة – والتى بلغ جزءها الأول أكثر من ثلاثمائة وخمسون صفحة – تعكس سجلاً حافلاً من التميز والوطنية – قال عنها معلقاً أستاذنا الراحل بروفيسور على عبد القادر، رحمه الله، أنها تستحق أن تُدَرَّس ضمن مقررات التربية الوطنية فى المدارس الثانوية. سيكون لنا مجال آخر للحديث عن جوانب أخرى من هذه المذكرات وعن سيرة ومسيرة صاحبها، لكننا نخصص هذا المقال لنبوءة المفتش الإنجليزى كما وردت فى المذكرات وما ذا تعنى بالنسبة لنا ونحن فى هذا المنعطف الخطير والتهديد الوجودى الذى تمر به بلادنا.
قد يرى البعض أن تساؤل ذلك المسؤول البريطاني لا يعدو أن يكون تجسيداً لنزعة استعمارية أو حتى عنصرية. غير أن هذا الحكم المتعجل لا يصيب كبد الحقيقة؛ فمسار مشروعنا الوطني خلال العقود السبعة اللاحقة لم يفعل سوى تأكيد تلك المخاوف المبكرة. والأخطر من ذلك أن مثل هذه الخِفَة في مقاربة القضايا الكبرى تمثل في حد ذاتها أحد مظاهر القصور في سرديتنا الوطنية، وعجزنا المزمن عن مواجهة مناطق الضعف في مشروع الدولة السودانية، وعدم قدرتنا على بناء مشتركات وطنية صلبة تصمد أمام تقلبات الزمن وصدماته مهما تباينت مشاربنا الفكرية والهوياتية.
نبوءة المفتش الإنجليزى بالنهود منتصف عام 1954:
قبل أن نتحدث بالتفصيل عن نبوءة ذلك المفتش والمبررات التى ساقها، أود أن أقدم لمحة عن غرب كردفان ونسيجها القبلى المتنوع الذى تتصدره قبيلة حمر وعاصمتها الحضرية مدينة النهود ليتضح للقارئ أن من كان يُسند له منصب المفتش لمنطقة غرب كردفان فى ذلك الزمان كانت له خصوصية فى هرم سلطة الحكم الثنائى فى سائر البلاد وبالتالى ربما عبرت نبوءته هذه عن رأى تلك النُخبة البريطانية الحاكمة بصورة عامة. فقد وصف صاحب المذكرات مدينة النهود بأنها: “كانت أكبر سوق في السودان للإبل وللأبقار ومن بعد للفول السوداني وللدخن وكانت بها أكبر جالية من (الشام – سوريا ولبنان) ومن اليونان و تأسس بها (نادي) عام 1917م عرف باسم (نادي السلام) زاره العديد من الشخصيات والرحالة العالميين ومن بينهم الرحالة المصري (أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي في عهد الملك فاروق والذي يُروى أنه تزوج أم الملك نازلي بعد قصة حب عقبت وفاة والده الملك فؤاد الأول) وكانت النهود بحق مدينة سلام وعاصمة فروة النمر(1) – إذ لم يسجل تاريخها خلافات بين الريف والحضر ولا بين الجنسيات العديدة المكونة للحضر. وتعتبر النهود حاضرة لأكبر (مركز في السودان) وهو ما يسمى (مرکز غرب کردفان) ويضم حمر بكل مكوناتها والمسيرية والدينكا. وكان به ثلاثة مفتشون بريطانيون واحد لحمر وواحد لكل من المسيرية والدينكا والثالث ويسمى المفتش الأول يرأس الاثنين وما من سكرتير إداري جلس على الكرسي في الخرطوم إلا كان وقد شغل يوماً ما منصب (مفتش غرب کردفان) ابتداء من السير مفي إلى نيوبولد إلى جيمس روبرتسون.”( ص 109).
إذن، نعود لصلب موضوعنا عن قصة المفتش الإنجليزى مع الشيخ منعم منصور كما وردت فى المذكرات، ثم نتحدث عن ما ذا تعنى بالنسبة لنا بعد هذه العقود المتطاولة. ذكر صاحب المذكرات أنه بعد أن اتضحت معالم انتهاء الحكم الثنائي “أقام الشيخ منعم منصور حفل شاي وداعاً لمفتش المركز المستر بيتر هوق Hogg Peter كما هي العادة وفي أثناء الحفل – منتصف 1954م – سال مستر هوق “تفتكر يا شيخ منعم تقدروا تحكموا نفسكم إذا أصبح السودان مستقلاً ؟”، فرد عليه الناظر: ” كيف ما نقدر الحبش حاكمين نفسهم ولما موسليني هاجمهم قوة دفاع السودان هي التي حررت الحبشة”. فقال المفتش مفسراً : “تمام لكن إنتو ما زي الحبش. أنتو ناس (حاسدين)”. فتابع الناظر مستنكراً: “دا رأيكم فينا يا مستر هوق بعد السنين دي كلها ؟”.
وهنا قدم المفتش رؤيته بالتفصيل:” دا موش رأينا دي تصرفاتكم إنتو. أديك مثل يا شيخ منعم، نحن الخواجات إذا وجد الواحد منا شجرة فيها ثمر ينادي على أخوانه. وعندما يجتمعون يكلفون أخفهم وزناً بأن يمتطي ظهورهم ويتسلق الشجرة. ويقوم بجمع الثمار الناضجة ويملأ بها جيوبه ويرمي بغير الناضجة إلى الأرض. أما إذا وجد فيكم يا حمر ويا سودانيين شجرة فيها ثماراً فإنه لا ينادي على أحد ويسير متخفياً ويتسلق بمشقة وفجأة يفتقده إخوانه فيقتفون أثره وعندما يتأكدون أنه في أعلى الشجرة يأتون بعدة فؤوس وبسرعة فائقة يقطعون الشجرة فيقع الأخ ويتناثر الثمر متقطعاً أشلاء بجانب أشلاء أخيهم”. كما أورد صاحب المذكرات: “تعجب الشيخ منعم من المثل والطريقة الدرامية التي حكاها به مستر هوق الذي أردف: يبدو أنك غير مصدق ولكن بعد رحيلنا سيرى أولادكم العجب في الفايلات السرية من الشكاوي الكيدية والمختلفة التي تقدم لكل مفتش جديد وتسير حتى معالي الحاكم ثم تعود للمركز ثم صارت تقف عند سعادة مدير المديرية ثم أصبحت لا تتعدى مكتب المفتش الأول”.
كما أفادت المذكرات، فقد أكدت الوثائق صحة كلام المفتش: “وبالفعل وجد – حامد منعم منصور الذي كان في خدمة المركز إلى أن تمت تصفيته بتحويله إلى مجلس ريفي وجد العجب مما لا يحكى حفاظاً على علاقات لا ذنب للأبناء والأحفاد في نبشها”. بل أسوأ من ذلك يبدو أن هذه الخصلة الذميمة (الحسد)، من إحدى عيوبنا الإجتماعية كسودانيين بصورة عامة، حيث أفاد صاحب المذكرات: “مسألة (الحسد) ليست وقفاً على قبيلة حمر ولكن – كما ذكر العلامة عبد الله الطيب – هي صفة اتسمت بها كثير من القبائل العربية الأصل وزاد على ذلك أن بجزيرة العرب عشر قبائل اشتهرت بالحسد هاجرت منها تسع الى السودان ونحن جميعاً أبناؤها.”(ص 109-110).
ما ذا يجب أن تعنى “نبوءة المفتش الإنجليزى” لنا:
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفلق: {قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)}.
سورة النساء، الآية 54: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا» رواه مسلم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد» رواه مسلم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» أخرجه أبو داود والبيهقي
الحسد خصلةٌ ذميمة ومدمّرة للأفراد والأمم، كما أخبرنا القرآن الكريم والسنة المطهّرة. ومن هذا المنطلق، فإن ما أشار إليه العلّامة الراحل عبد الله الطيّب، عليه الرحمة والرضوان، من أنّ الحسد خَصلةٌ اتسمت بها كثير من القبائل العربية، وأن معظم القبائل العشر التي اشتهرت بها انتهى بها المطاف إلى الهجرة نحو السودان، ليس مجرّد رواية تراثية أو ملاحظة لغوية عابرة، بل نافذة لفهم جانبٍ دقيق من البنية النفسية والاجتماعية في مجتمعنا السوداني. ويتعزّز هذا المعنى بما حذّر منه المفتش الإنجليزي إبّان الحكم الثنائي، من أنّ مشروع السودان الوطني قد يتعثّر بعد الاستقلال إذا لم تُعالَج هذه السمة وتُحتوَ فكرياً واجتماعياً. ومن ثم فإنّ التعامل مع هذا الموضوع بخفّة أو إنكاره بدعوى الحرج أو الحساسية لا يخدم مسعى بناء دولة حديثة. بل المطلوب مقاربة علمية جادّة تستصحب موروثنا الدينى وتُعَبِّئ كل الطاقات والخبرات في ميادين علم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس الثقافي لتحليل جذور هذه الظاهرة، وتفكيك آليات اشتغالها في الوعي الجمعي، ووضع برامج تربوية وثقافية وإعلامية تعزّز قيم التعاون، والإعتراف بفضل الآخر وثقافة النجاح المشترك، وأخلاقيات المنافسة الشريفة. كما ينبغي إدماج هذا الوعي في سردية وطنية جديدة تجعل من نقد الذات باباً للبناء لا للهدم، ومن الاعتراف بالمشكلة خطوة أولى نحو تجاوزها. فالأمم التي تتقدّم ليست تلك التي تخفي عللها، بل تلك التي تواجهها بشجاعة وتحولها إلى طاقة إصلاح وتجديد.
عليه، فإن القراءة الصحيحة لنبوءة ذلك المفتش هى أن علينا كشعب سوداني ونحن في ظل هذه الحرب المأساوية، علينا بادئ الأمر الغوص في أعماق شخصيتنا وقوامتها النفسية والاجتماعية وتراثها الديني والشعبي والتدبر في ذلك الذي حدث لنا وما دورنا فى صُنعه – كمجتمع ونُخَب. منذ فجر الاستقلال، وقف السودان على عتبة الدولة الحديثة خاليَ الوفاض من مشروعٍ وطنيٍّ جامع يؤلِّف بين مكوّناته المتعددة، ويهدي خطى نُخبه السياسية، ويُقيم أسساً راسخةً للهوية المشتركة والعقد الاجتماعي. ليست هذه المعضلةُ طارئةً ولا ابنةَ اليوم، بل هي جرحٌ قديمٌ نبَّه إليه ذلك المفتش من إدارى حقبة الحكم البريطاني الذي نقل عنه الوزير الراحل إبراهيم منعم منصور، حين عبّر عن خشيتهم من أن يبلغ السودان استقلاله بلا رؤية واحدة تهديه وبلا مشتركات وطنية تحصّنه من الانقسام – وذلك لأننا «شعبٌ حاسد» كما قال.
وهكذا وُلِدَ السودانُ السياسيُّ مثقلاً بغياب مشروعه، فتعثَّر في درب الديمقراطية؛ حتى عندما تصدى لقيادة العمل العام نساءٌ ورجالٌ لا تعوزهم الوطنية والإخلاص – كانت تعوزهم ومن معهم من النُخب والجمهور المشتركات ووحدة الهدف. بل، حتى عندما تأتى الانقلابات العسكرية وتقضى على ديمقراطياتنا الهشة قصير العمر، تفشل هى الأخرى فى بناء “شمولية تنموية”، تحقق بعض التحولات الاقتصادية كما حدث فى دول جوارنا الأقليمى – رغماً عن أننا لا نفضل الشمولية بأى شكل كانت ولكن، كما يقولون، ضرر أخف من ضرر. وتردت البلاد بعد ذلك فى أتون الانقلابات المفضية إلى أنظمة مستبدة فاسدة، واستُنزِفت في حروبٍ أهليةٍ متطاولة، وانتهت في حقبتنا الحاضرة إلى حربٍ هي الأعنف في تاريخها، تُهدِّد بنيانها الاجتماعي، وتُنهك اقتصادها، وتكاد تعصف بوجودها كوطن وأرض وشعب.
إن فراغ المشروع الوطني هو أصلُ الداء الذي أقعد بالسودان عن بلوغ الديمقراطية المستقرة، ومنعه من تأسيس دولةٍ تنموية، وأسلمه إلى دوامة الحروب والانهيارات. لكن هذا الفراغ ليس قدراً محتوماً؛ فالأمم – كما يقول الفلاسفة – تُولَد مرتين: مرةً بالتاريخ، ومرةً بالإرادة. واليوم، يقف السودان أمام لحظةٍ فارقة قد تكون لحظة ميلاده الثاني، إذا اختار أن يكتب سرديته الوطنية بيده: سرديةٌ تُعلي قيمة الإنسان، وتُعيد للسياسة أخلاقها، وللدولة وظيفتها، وللوطن معناه. إنّ بناء المشروع الوطني ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورةٌ وجودية لإنقاذ السودان وفتح الطريق أمام سلامٍ عادلٍ وتنميةٍ مستدامة وحكمٍ راشد. وما لم يتقدّم السودانيون إلى هذه المهمة الكبرى، ستظل البلاد أسيرة فراغٍ يُعيد إنتاج ذاته، وعنفٍ يُدمّر مستقبله، وتاريخٍ يُكرّر مآسيه.
والسودان قادر – بموارده وإرثه الثقافي وروح شعبه – على أن ينهض من خراب الحرب، وأن يسلك «الممرّ الضيّق» نحو الحرية والديمقراطية والازدهار، لكن علينا أن نهندس سرديتنا الوطنية كما لم تكن من قبل ونقاوم اليأس والاستسلام وألا نيأس من روح الله:
“يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ” (يوسف، 87)، صدق الله العظيم.
إذا التفَ حولَ الحقِ قومٌ فإنه يُصرِّم أحداثَ الزمانِ ويُبرِم
كونوا جميعا يا بَني إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت أفرادا
—————–
تسمى دار حمر (فروة النمر) لتنوع نسيجها القبلى والذى يشمل بجانب، الحمر، القبيلة الرئيسة وصاحبة الدار، عدة قبائل وفدت إلى الدار من دارفور وكردفان ودينكا بحر الغزال، وأيضاً من شمال السودان، خاصة قبيلة المناصير التى هاجرت بأعداد كبيرة إلى المنطقة منذ ما قبل حقبة حكم التركية السابقة. أيضاً من اللافت أن عمدة المدينة كان من أسرة أبورنات من الشايقية.
