المجاعة الصامتة: كيف يدمّر الجوع مستقبل السودان قبل أن تنتهي الحرب؟

بقلم وزير المالية السابق بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي

بدعوة كريمة من “منظمة الاستجابة للتنمية المستدامة” (SuDRO) شاركت فى ندوة إسفيرية عن “المجاعة والصراع فى السودان”‘ عُقدت فى الحادى والثلاثين من أكتوبر. تهدف هذه المنظمة إلى بناء مجتمعات مستدامة من خلال الشراكة وتبادل المعرفة وبناء القدرات. تعمل المنظمة من خلال تطوع الشباب والمبادرات التي ينشئها المتطوعون أنفسهم وفقاً لاحتياجات المجتمع. بحسب ما ورد فى موقعها، للمنظمة وجود ميدانى فى السودان ولديها منظمة شقيقة في الولايات المتحدة. تضم المنظمة نخبة متميزة من الأطباء الإستشاريين فى مجال الصحة العامة والتغذية وخبراء فى مختلف مجالات أهداف التنمية المستدامة. أدار الندوة البروفيسور إبراهيم باني، خبير الصحة العامة والتغذية وأستاذ كلية الطب بجامعة الجزيرة سابقاً، محدداً أهداف الندوة فيما يلى:

دراسة الآثار الصحية والتغذوية للمجاعة في السودان.

مناقشة العواقب السريرية، بما في ذلك متلازمة إعادة التغذية.

تسليط الضوء على الأبعاد المتعلقة بحقوق الإنسان، بما في ذلك استخدام المجاعة كسلاح حرب.

تقييم الآثار الاقتصادية للمجاعة والصراع على الأسر السودانية وسبل عيشها وتعافيها على المدى الطويل.

تعزيز الحوار حول السياسات والدعوة إلى الربط بين الأدلة العلمية والعمل الإنساني.

لقد كانت ندوة تعليمية وتثقيفية بحق عن حدة المجاعة فى البلاد جراء هذه الحرب والآثار الصحية الخطيرة المترتبة عليها، خاصة بالنسبة للأطفال. أتمنى على القائمين بأمر المنظمة كتابة مقالات للرأى العام لكى يدرك غير المتخصصين كيف يعيش السودان اليوم لحظة فارقة، لا تقاس فقط بحدة الحرب واتساع رقعة الدمار، بل بواقع أخطر بكثير مما يظهر على سطح المشهد السياسي والعسكري. الحرب الدائرة في السودان لا تقتل بالرصاص وحده. فهناك موت آخر، أبطأ وأعمق أثراً، لا تلتقطه الكاميرات ولا تتوقف عنده نشرات الأخبار اليومية. إنه موت الجوع، الذي يتسلّل إلى أجساد الأطفال، ويهدم قدراتهم العقلية والبدنية، ويفكّك ما تبقى من رأس المال البشري الذي كان يمكن أن يشكّل نواة إعادة بناء سودان المستقبل بعد توقف القتال. الجوع ليس مأساة إنسانية فحسب، بل هو صدمة اقتصادية ممتدة لأجيال، تأكل مستقبل البلاد قبل حاضرها . وهو أخطر من الدمار المادي، لأن الجسور تُعاد بناؤها، والمصانع تُعاد تشييدها، لكن العقل البشري المتضرّر لا يمكن استعادته بعد ضياع فرصة النمو في الطفولة. إننا لا نواجه مجرد كارثة غذائية، بل ما يمكن تسميته “نقطة اللاعودة الديموغرافية والاقتصادية”: حين يصبح عدد كبير من الأطفال غير قابلين للاندماج مستقبلاً في سوق العمل المنتج، بسبب سوء التغذية، والتسرّب المدرسي، وتوقّف التكوين الذهني والمهاري.

طُلب منى أن أتحدث عن الآثار الاقتصادية بعيدة المدى للمجاعة وهذا سيكون موضوع ما تبقى من هذا المقال.

خريطة الجوع السوداني: أمة على حافة الانهيار البيولوجي :

الأرقام الصادرة عن المنظمات الدولية صارخة وصادمة وتكشف هول الكارثة: أكثر من خمسة وعشرين مليون سوداني يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد، من بينهم ثلاثة ملايين طفل في حالة سوء تغذية تهدّد حياتهم مباشرة. وهذه الأرقام ليست إحصاءات جامدة، بل مؤشّرات عن انهيار شامل في منظومة البقاء البشري، أوسع بكثير من مجرد فقدان الطعام، حيث يقترن الجوع بالتشرّد وفقدان التعليم وانهيار شبكات الصحة والإمداد. وهكذا يتحوّل الوطن إلى بيئة طاردة للحياة، لا فقط بفعل الحرب، بل بفعل تآكل القدرة على إنتاج الإنسان ذاته. ما يجهله الكثيرون أن الطفل الذي يفقد غذاءه الآن لن يصبح مجرد ضعيف البنية مستقبلاً، بل ضعيف الإنتاجية أيضاً. وسوء التغذية في السنوات الأولى من العمر، خاصة في “الألف يوم الأولى”، يؤثر على:

التطور العقلي: ضعف الذاكرة والانتباه

التكوين الجسدي: قِصر القامة، ضعف المناعة

القدرات التعليمية: تدنّي التحصيل الدراسي

الجوع ليس حدثاً طارئاً، بل قنبلة اقتصادية مؤجلة:

المطلوب هنا ليس التعاطف الإنساني فقط، بل أيضاً إدراك حجم الخسائر الاقتصادية. فالجوع ليس حدثاً مؤقتًا، بل صدمة تنموية ذات آثار لا تُمحى. فالطفل الذي يفقد التغذية السليمة في سنواته الأولى لا يخسر الوزن والطول فحسب، بل يخسر القدرات العقلية، ومهارات التعلّم، والقوة البدنية الضرورية للإنتاج مستقبلاً. وهذا يعني أن ملايين الأطفال السودانيين اليوم لن يكونوا قادرين – بعد عشرين عاماً – على الاندماج في سوق العمل المنتج، مما يخلق قوة عمل ضعيفة، واقتصاداً مشوّهاً، وتفاوتاً اجتماعياً وطبقياً عميقاً يجرّ الأجيال التالية إلى المصير ذاته، أو ما يسمى بالفقر العابر للأجيال (dynastic poverty). هذه العوامل مجتمعةً لا محالة ستعيد إنتاج ذات الجذور التى سببت أزمة التخلف والنزاعات التى رُزئت بها البلاد وما زالت.

إذن، فإن المجاعة تعطل بصورة مباشرة أثنين من أهم روافع النمو الاقتصادى مستقبلاً: أولاً، رأس المال البشرى المرتبط بالقدرات العقلية والتحصيل التعليمى؛ وثانياً، قوة “العمل الخام” التى يوفرها التكوين الجسدى السليم. كذلك، فإن ضعف وقِلَّة عديد العمالة وضعف مهاراتها وتأهيلها العلمى يؤثران سلباً على تحفيز وجلب الإستثمار، خاصة فى القطاعات النوعية ذات الانتاجية العالية. فى هذا السياق، أثبتت الأدبيات العلمية أن سوء التغذية المبكر يؤدي إلى انخفاض دائم في الإنتاجية قد يصل إلى عشرة في المائة مدى الحياة. هذا رقم مخيف بالنسبة لمستقبل السودان إذا لم تضع هذه الحرب أوزارها اليوم قبل غداً ويصار إلى تبنى برنامجاً قوياً يركز على التغذية الجيدة للإطفال ومحاولة إيقاف الآثار التراكمية الماحقة لهذه المجاعة. إذن، فإن الجوع الحالي ليس فقط “مشكلة إغاثة”، بل كارثة اقتصادية ستظهر على شكل:

قوة عمل أقل كفاءة

نمو اقتصادي منخفض لسنوات طويلة

فقر مُعاد إنتاجه عبر الأجيال

تراجع الإنتاجية الوطنية على نطاق واسع

لقد ركزنا فى دراستنا (باللغة الانجليزية) الموسومة “مستقبل السودان بين الصراع الكارثي ومسارات النمو السلمى النهضوى: محاكاة نموذج النمو طويل الأجل”(1) على تقدير الكلفة الاقتصادية لهذه الحرب عن طريق محاكاة الدمار الذى أحدثته فى روافع النمو الاقتصادى، بما فى ذلك الجوع والتسرب المدرسى وتجريف نوعية وقوة العمل المترتبة عليهما. بحسب تقديرنا فى هذه الدراسة: حتى إذا أُنهيت هذه الحرب، بعون الله، خلال شهور معددوة ستحتاج البلاد لنمو غير مسبوق (فى المتوسط 10% سنوياً) لمدة سبع سنوات “حسوما” للوصول إلى ناتج محلى يقارب الخمسين ملياراً التى بلغها الاقتصاد السودانى قبل الحرب – وهى بالنسبة لعدد سكان السودان الذى يناهز الخمسين مليوناً تعنى أن السودان أصلاً دولة فقيرة رغم مواردها الغنية، كما هو معلوم. فالحرب لا تتسبب فى الدمار المادي وحده، بل أيضاً الانهيار التراكمي في رأس المال البشري. فالأوطان تعوّض خسائر المباني، لكنها لا تستطيع أن تعوّض خسائر العقول التي لم تكتمل، والأجساد التي لم تنمُ، والأطفال الذين ماتوا قبل أن يدخلوا المدرسة أو سوق العمل.

التجارب العالمية الناجحة فى التعافى وإعادة الإعمار بعد الحروب:

تشير الأدلة الدولية إلى أن المجتمعات الخارجة من الحروب لا تبدأ نهضتها بالاستثمار في البنية التحتية، بل في البشر أولاً. فدولة فيتنام، مثلاً، بنت معجزتها الاقتصادية بعد الحرب على قاعدة التغذية والتعليم قبل أن تتوسع فى بناء قاعدتها الصناعية. ورواندا – بعد أحد أبشع كوارث الإبادة الجماعية – لم تتجه فوراً إلى إعادة الإعمار العمراني فحسب، بل أعادت بناء الطفل والمدرسة والهوية الوطنية الجامعة. بل إن تجربة بحثية في غواتيمالا أظهرت أن الأطفال الذين تلقّوا تغذية مبكرة ارتفعت أجورهم في شبابهم بنسبة قاربت النصف، مقارنة بأقرانهم الذين لم يتلقّوا الدعم الغذائي ذاته(2). هذه ليست مجرد تجارب إنسانية، بل أيضاً تجارباً اقتصادية تثبت أن رأس المال البشري ليس شعاراً، بل أعظم استثمار في عملية التحولات السلمية النهضوية بعد الحروب.

إن أخطر ما في المجاعة السودانية أنها تُدار وكأنها ملف إغاثي، فيما هي في جوهرها ملف اقتصادي، استثماري، سيادي. فالتغذية ليست ترفاً إنسانياً، بل أحد أعمدة السياسة الاقتصادية، بل قد تكون أهم حلقات إعادة الإعمار بعد الحرب. وبحسب دراسة حديثة للبنك الدولى (2024)(3): على الصعيد العالمى، فإن الاستثمارات الرامية إلى توسيع نطاق التدخلات الغذائية عالية التأثير تحقق نتائجاً صحية واقتصادية مذهلة:

تمنع 6.2 مليون حالة وفاة بين الأطفال دون سن الخامسة و980 ألف حالة ولادة أجنة ميتة خلال العقد المقبل.

كما ستحول برامج التغذية دون حدوث 27 مليون حالة من حالات التقزم لدى الأطفال و144 مليون حالة من حالات فقر الدم لدى الأمهات.

بالإضافة إلى ذلك، من المقدر أن يؤدي توسيع نطاق التدخلات التغذوية إلى تحقيق فوائد اقتصادية بقيمة 2.4 تريليون دولار – فلكل دولار يُستثمر في معالجة سوء التغذية، يُتوقع عائداً قدره 23 دولاراً.

وتفوق هذه الفوائد الاقتصادية بكثير تكاليف عدم اتخاذ أي إجراء، والتي تبلغ حوالي 41 تريليون دولار على مدى 10 سنوات. وهذا يعني أن الاستثمار في إنقاذ الأطفال اليوم أعلى عائداً من أي مشروع طاقة، أو ميناء، أو طريق سيُبنى بعد الحرب. ومن دون هذه الحقيقة، لا معنى لكل حديث عن النهضة أو التنمية أو الدولة الجديدة.

ما العمل؟ خريطة إنقاذ في أربع خطوات عاجلة:

تأسيساً على ما تقدم، فإن استراتيجية التعافى لا تبدأ بعد وقف إطلاق النار، بل الآن، وباستراتيجية تركّز على التغذية، واستعادة التعليم ولو بوسائل بديلة، وإعادة تشغيل شبكات الصحة الأولية، وتوفير دعم نقدي موجه للأسر، وربط كل ذلك ببرامج الإعمار المستقبلية لا بوصفها عمليات إغاثة، بل بوصفها سياسات إنتاج إنساني ضرورية لإعادة تأسيس الاقتصاد الوطني. فالأطفال الذين يُنقذون اليوم ليسوا عبئاً على الدولة، بل مخزونها البشري الوحيد للمستقبل، ورأس مالها غير القابل للاستيراد.

تحديداً، يجب اعتماد استراتيجية عاجلة من أربع مكونات خلال الحرب وتتواصل بعدها ضمن استراتيجية شاملة لإعادة الإعمار والسلام يدمج فيها ملف التغذية كمكوّن أصيل على مستوى الاقتصاد الكلي و ليس مجرد ملفٍ إغاثيٍ أوإنسانيٍ:

أولاً، تغذية عاجلة للأمهات والأطفال: حليب، مكملات، أغذية علاجية جاهزة، دعم غذائي مباشر. ثانياً، استعادة التعليم ولو بمدارس مؤقتة، تقدم فيها الوجبة المدرسية كأداة تعليمية، صحية واقتصادية معاً. ثالثاً، تبنى برنامجاً صحياً مكثفاً، يشمل اللقاحات، المياه النظيفة، مكافحة الإسهالات والطفيليات. رابعاً، تحويلات نقدية للأسر لتحفيز الطلب وإنعاش الاقتصاد المحلى وتقليل الاعتماد على السلال الغذائية قدر الإمكان.

ختاماً: إنهاء هذه الحرب هو القرار الوطنى الأوحد لحفظ كيان هذا الوطن ووضع نهاية لهذه المأساة. لكن فى غياب ذلك، لابد أن تنهض كافة فئات المجتمع السودانى – غض النظر عن التباينات التى تحتويهم جراء هذه الحرب – بالإهتمام بقضية المجاعة، خاصة مجاعة الأطفال، بصورة أكبر وأن لا يقتصر الأمر علي انتظار ما تقوم به المنظمات الدولية فهذا لن يكون كافيا ولا يخاطب المشكلة كقضية استثمار وتنمية كما أبنا فى هذا المقال. وفى هذا السياق لا تفوتنى الإشادة بالمجهود الشعبى العظيم لمبادرات المطابخ الجماعية القائمة حاليآ في السودان والتى يمكن البناء عليها كمبادرة محلية صغيرة لكنها بالغة الأهمية في مسألة الحد من آثار الجوع وتمهيد الطريق للتعافي عندما تضع الحرب أوزارها. أيضاً، بعد الحرب لابد من تفادى الإعتماد المفرط على المعونات الرسمية الأجنبية – الإنسانية منها والتنموية على حدٍ سواء – خاصة وأن طرق التمويل التقليدية بواسطة البرامج الأممية و المنظمات الطوعية الدولية قد أصبحت شحيحة نسبياً. عليه، لابد من التفكير في طرق غير تقليدية في التمويل مثل الشراكات بين القطاعين العام والخاص و كذلك مع المنظمات الطوعية الخاصة، مثل الجمعيات الدينية الخيرية وغيرها.

إن السودان اليوم لا يموت بالسلاح وحده، بل يموت ببطء داخل أجساد صامتة، لا تملك القدرة على الصراخ. ولهذا، فإن الواجب الأخلاقي والسياسي والاقتصادي واحد: إنقاذ الطفل السوداني ليس استجابة إنسانية مؤقتة، بل فعل تأسيسي لمستقبل دولة قابلة للحياة. فإعادة الإعمار الحقيقية لا تبدأ بالطوب وحده، بل بالطفل، ولا تبنى بالودائع، بل بالولادات السليمة. وإذا كان البشر هم المورد الأول في معادلة الدولة، فإن حماية الطفل ليست بنداً اجتماعياً، بل بنداً سيادياً يحدد إن كان للسودان غدٌ أم لا.

—————–

أنظر الرابط: https://erf.org.eg/publications/sudans-future-between-catastrophic-conflict-and-peaceful-renaissance-growth-trajectories-long-term-growth-model-simulations

أنظر الرابط: https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/18242415/

أنظر الرابط: https://www.worldbank.org/en/topic/nutrition/publication/investment-framework-nutrition?utm_source=chatgpt.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.