
الزاكي عبد الحميد يكتب ..سرديات
بذيء اللسان،
دميم الوجه،
قصير القامة كان، فلقبوه بالحطيئة لقربه من الأرض..
واهلنا قالوا (القصيّر يا فتنة يا حكمة)..
وصاحبنا جمع بين الخصلتين وتفوق فيهما..
فلسانه السليط كان يثير الفتنة بين القبائل؛ وكما نعلم؛ كان للأعراب في غابر زمانهم عنجهية مقيتة، ساقتهم لحروب دامت عقودا، ودونكم ناقة البسوس التي أدخلتهم قي حرب ظلت تحصد أرواحهم أربعين عاما بالتمام والكمال..
لكن على صعيد آخر كان لسان شاعرنا مصدراً للحكم..
أهل اللغة الانجليزية لديهم قول مأثور يحض المرءَ على البقاء مع الجماعة حتى يكون في مأمن:
There’s safety in numbers..
أي الأمان في بقائك مع الجماعة..
ويبدو أن الإنجليز استعاروا هذا المثل من المسرحي الاغريقي المعروف يوريبيديس Euripides وتمسّكوا به؛ إلى أن جاءهم كاتب أمريكي يدعى جيمس ثيربر James Thurber وأراهم خطل ما يقولون..
اصدر الكاتب الأمريكي مجموعة من القصص القصيرة إحداها نالت اهتماما أكثر من غيرها وجاءت بعنوان الذبابة الذكية لحد ما
The Fairly Intelligent Fly
في هذه القصة القصيرة قال المؤلف الامريكي:
There’s No Safety In Numbers Or In Anything Else
ومعنى قوله هو : أن لا سلامة لا مع بقائك مع الجماعة ولا مع بقائك مع من يكون..
ويحكي في قصة الذبابة الذكية لحد ما، ان ذبابةً، ظلت تتجنب بذكائها، الوقوعَ، في شباك بيوت العنكبوت، لفترة طويلة من الزمن، حتى رأت ذات مرة، جماعةً من أهلها الذباب، تتحرك بجنون، ذات اليمين وذات الشمال داخل شبكة من بيوت العنكبوت..
بعد تفكير قررت الذبابة، الإنضمامَ لجماعتها، لتشاركَها ما بدا لها رقصة جميلة..
فجاءتها نحلة، وحاولت اقناعها بأن جماعتها لا ترقص كما توهمت هي، وإنما هي تحاول الخروج من شبكة نسجها لهم العنكبوت لاصطيادهم ، وما قدرت فإياك..إياك تورطي نفسك!!..
اصرت الذبابة، وحكمت رأيها وانطلقت لجماعتها وما عادت..راحت فيها “طبعن”.
لدينا في السودان، بعض الأمثال الشعبية، التي يكون فيها عنصر الحكمة ضئيلا، إن لم يكن معدوما في الاصل، ومنها قولنا:الموت مع الجماعة عرس ويقصدون أنك طالما كنت مع الجماعة فإنك في مأمن..وهذا قول يحض على أن تنقاد مع الجماعة وأن تيمم وجهك حيث يمموا، وإياك أن تبتعد عنهم..وفي هذا السياق يكون قولنا مشابها لقول الافرنج:
There’s Safety In Numbers
وهو القول الذي أثبت خطله المؤلف الأمريكي مع ذبابته الذكية لحد ما..
مثلنا الشعبي المتداول إلى يومنا هذا؛ يحبطني كثيرا..
كيف يعني الموت مع الجماعة عرس؟هل المقبل على الموت يكترث لغير نفسه؟ وماذا لو كانت الجماعة على خطأ، هل تروح فيها معاهم بكامل وعيك؟
الناس تستخدم هذا المثل في ظني لتختبيء من التغيير..والتغيير لن يتأتّى ما لم نبتعد عن الجماعة..
لذلك كان القول ما قال صاحبنا سليط اللسان..
اشتكى الناس من سلاطة لسان هذا الشاعر البذيء؛ ورفعوا أمرهم للفاروق عمر.. استدعى أمير المؤمنين الشاعرَ ووبخه ثم اشترى منه أعراض الناس بمبلغ ثلاثة آلاف درهم..!التزم الشاعر الهجاء بشروط الصفقة ولكن عاد للهجاء بعد موت عمر..
وخلال الصفقة التي عقدها مع أمير المؤمنين الفاروق عمر؛ كتب شاعرنا الحطيئة شعرا جميلا يخلو من الهجاء وتسوده الحكم..
وجرى على لسان الشاعر الحطيئة؛ قولٌ، صار مضرب مثلّ، إذ إليه تنسب عبارة:
خالف تُذكَر..
Be different to be known
لقي الحطيئة اعرابيا ذات مرة على طريقه وسأله:
-من أشعر العرب؟
فقال الرجل: أنت!
فقال له الحطيئة: خالف تذكر..بل أشعر العرب من قال:
ومن يكُ ذا فضلٍ فيبخلْ بفضلِه،
على قومِه يُستغنَ عنه ويُذممِ..
والحطيئة يقصد بقائل هذا البيت زهير بن أبي سلمى…..
وبعبارة خالف تذكر ينصح الحطيئة العربي بأن يسعى للشهرة عن طريق مخالفة الناس..اي ان يخالف ما استقر عليه رأي الجماعة، بأن أشعر العرب هو الحطيئة، ولعل الشاعر الهجاء خبيث اللسان ينصحنا نحن معشر السودانيين أن لا ننساق وراء قولنا الشعبي المأثور (الموت مع الجماعة عرس!) وفي هذا السياق يكون للعبارة معنى عدم الانسياق وراء الجماعة وعدم الاكتفاء بما يرون..
وهو ذات المعنى الذي قصده انشتاين حين قال:
The person who follows the crowd will usually go no further than the crowd. The person who walks alone is likely to find himself in places no one has ever seen before..
ومعنى قول انشتاين هو أن الشخص الذي يسير خلف الجماعة ويتبعهم الخطو بالخطو فإنه لن يصلَ إلى مكانٍ، أبعد مما وصلوه..أما الشخص الذي يسير لوحده، فإنه من الجائز أن يجدَ نفسَه في مكان لم يبلغه أحدٌ غيره من قبل..
وهكذا يأتي كلام انشتاين في سياق ما قاله الحطيئة للإعرابي، يشجعه على سلك الدروب غير المطروقة، لياتي بما لم يسبقه إليه احد، ويعني اختراع الجديد المفيد للبشرية أو إنتاج نوع من الأدب غير الذي ألفه الناس…
