وزير المالية الأسبق بروفيسور إبراهيم البدوي يكتب.. “وداعاً عمار آدم”

﴿ قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (المائدة، 119)

آلا رحم الله أستاذ عمار آدم وألحقه بالصديقين فى جناتٍ تجرى من تحتها الأنهار. لقد كان الفقيد صادقاً فى إختياراته، شجاعاً فى مواقفه، إتفقنا معه أو إختلفنا.  لم أكن أعرف عنه الكثير قبل تشريفى بالعمل كوزير للمالية والتخطيط الاقتصادى فى الحكومة الانتقالية الأولى بعد ثورة ديسمبر المجيدة.  وكان أول عهدى به عندما دعتنا وكالة سونا للأنباء لندوة صحفية فى الخامس من مارس 2020 لشرح مشروع ترشيد دعم المحروقات وإصلاح الاقتصاد الكلى.

أذكر أننى قدمت مرافعة تستند إلى أن التحليل الموضوعى للتركة الاقتصادية لنظام الإنقاذ البائد لابد أن يقودنا إلى القطع بأن الدعم السلعى، خاصة دعم المشتقات البترولية، وتعدد أسعار الصرف وسيطرة السوق الموازى للنقد الأجنبي يشكلان الوجهين الأبرز لعملة هذه التركة ويمثلان مرضاً سرطانياً عدوانياً احتنك اقتصادنا الكلى، ضارباً استقراره المالى والنقدى وتنافسية صادراته في مقتل، فضلاً عن أنهما وفرا مرتعاً للنشاط الطفيلى بصورة لم يسبق لها مثيل. عليه، لابد من عملية جراحية “محسوبة” لإزالة هذه التشوهات السرطانية.  كنت كوزير مالية وزملائى من قيادات الوزارة قد تعرضنا لإنتقادات بشأن إعطاء تصديق لشركة الفاخر لتصدير الذهب فى سياق إجراءات جديدة لتسويق المعدن وخروج بنك السودان من عمليات شرائه وتمويله بموارد غير حقيقية.  قدمت رؤية وزارة المالية بصورة كلية وتفضل زملائى – الأستاذة آمنة أبكر، عليها الرحمة والرضوان، والأساتذة على عسكورى وعلاء محى الدين، متعهم الله بالصحة والعافية – بتقديم التفاصيل المؤسسية والسياسات ذات العلاقة.  وأعلنا للمجتمع الصحفى بأن أبواب الوزارة مفتوحة لكل من يرغب من الإعلاميين بإجراء تحقيقات صحفية، بل ذهبنا أبعد من ذلك بإبداء استعدادنا جميعاً للمثول أمام القضاء إذا كانت هناك شبهة فساد لأن الكل تحت سقف القانون بعد ثورة ديسمبر المجيدة – أو كما كان يُخَيَّل لنا.

كان أستاذ عمار أول المتحدثين تعليقاً على الندوة، وقد شنّ عليّ هجوماً لاذعاً، ووصف الحكومة الانتقالية بأنها “حكومة حملة الجوازات الأجنبية” التي ينبغي أن ترحل وتترك السودان لأهله. كانت صدمة قاسية، لكنني وزملائى تحلينا بقدرٍ من ضبط النفس، كما يفرض علينا الواجب العام في لحظة انتقال بالغة التعقيد.
ومرت الشهور وتوالت الأحداث فى تلك الفترة المضطربة وعلمت أن أستاذ عمار قد تأكد أننى لا أحمل جوازاً أجنبياً – ولا زلت بالمناسبة. علمت أيضاً أنه ربما تأكد أننى لم أسكن فى جناح كامل فى فندق كورنثيا، كما كان يُروج وقتها عنى وآخرين فى الحكومة الانتقالية فى سياق مشروع تبخيس وشيطنة مسئولى الفترة الانتقالية، بل كنت طيلة عهدتى كوزير للمالية أسكن فى شقتى الخاصة.

  فى يوليو 2020 غادرت الوزارة. وبعد شهر أو شهرين،  حضرت ندوة بصحيفة التيّار الغراء بدعوة من الأستاذ عثمان ميرغني، رئيس تحرير الصحيفة، تحدثت فيها عن رؤيتي للإصلاح الاقتصادي وبرامجنا الاستراتيجية، وعلى رأسها مشروع هيكلة الأجور وبرنامج دعم الأسر عبر التحويل النقدي المباشر. يومها علق الأستاذ عمار مرة أخرى، ولكن بنرة مختلفة تماماً، حيث لم يكتفِ بالإتفاق مع حديثى فى تلك الندوة، بل أصبغ الشكر والثناء على شخصى الضعيف.

بعد هذه الندوة بأسابيع قفلت عائداً إلى القاهرة، حيث عدت إلى عملى قبل الوزارة كمدير تنفيذى لمنتدى البحوث الاقتصادية لمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط.  ثم جاءت اللحظة الأصدق في رمضان 2021، حين أخبرتني زوجتي بوجود “مفاجأة” أثناء مشاهدتها برنامج الصندوق للإستاذ أحمد دندش، حيث قدم أستاذ عمار، ضيف تلك الحلقة، إعتذاراً لشخصى الضعيف.  كان الضيف فى هذا البرنامج يختار ثلاثة أشياء من الصندوق، إحداها زهرة حمراء. إبتدر مقدم البرنامج أستاذ عمار، قائلاً  أننا فى شهر رمضان، شهر التسامح والعفو، طالباً منه أن يقدم هذه الزهرة “لزول إنت مزعله وقول ليه العفو والعافية”.  هكذا كان رد الفقيد أستاذ عمار، كما ورد فى الرابط أدناه: “أديها لدكتور ابراهيم البدوى وزير المالية السابق وكنت قد حدثته حديثاً خشناً من قبل فى وكالة سونا للأنباء، وهو رجل مهذب ورجل خلوق ورجل دمث الأخلاق، ما كان لى أن أخاطبه بمثل تلك اللغة” (https://www.youtube.com/watch?v=2APW57VG2ck).

لم أكن لأذكر هذه التفاصيل الشخصية لولا أنها فى الواقع تتحدث عن أستاذ عمار وليس عن اى شخص آخر. إنها تكشف عن معدن رجل صادق، وتفصح عن نقاء نفسه وسريرته عندما يتبين له الحق ويدرك الحقيقة.  كان أستاذ عمار صادقاً عندما كان كادراً فى الحركة “الإسلامية”، بل ومن “دبابيها” الذين قاتلوا فى حروب الجنوب – إذا صحت الرواية – وكان صادقاً عندما تحدث معى بتلك اللغة “الخشنة” ولم يكن بحاجة للإعتذار لى بعد أن مرت الشهور و”جرت مياهٌ كثيرة تحت الجسر”، كما يقولون، لكنها “النفس اللَّوامة”، التى أقسم بها الخالق العظيم.

ألا رحمك الله أخى عمار، والله لقد أبكانى رحيلك.  فبلادنا تفتقد الصادقين من أمثالك وقد تسيدها فى نكبتها هذه أهل الكذب والنفاق وتجار الدين وسماسرته – دعاة الحرب والدمار وهم آمنين فى أسرابهم من وراء الحدود، قاتلهم الله أنى يؤفكون.

تعازينا الحارة لأسرته وأهله و سائر الشعب السودانى ونسأل الله أن يتقبله شهيداً مع الصديقين والشهداء فى جنة الرضوان، ونحسبه كذلك، فقد مات بوباء أشبه بالطاعون صامداً فى بلده وسط أهله وعشيرته. إنا لله وإنا إليه راجعون.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.