
محمد نور كرم الله يكتب.. الطريق الى مجتمع المعرفة :قصة التحول التقني في السعودية
شهدت العقود الأخيرة تحولًا جذريًا في المشهد التقني على مستوى العالم، وكان لمنطقة الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، نصيبٌ بارزٌ من هذا التحول. ففي خضم السباق العالمي نحو الرقمنة، أدركت هذه الدول أهمية التقنية كمحركٍ أساسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد تبلورت هذه الرؤية مع بداية الألفية الثانية من خلال استراتيجيات وطنية واضحة استهدفت بناء بنية تحتية رقمية قوية، وتحفيز استخدام التكنولوجيا في مختلف القطاعات، من التعليم إلى الاقتصاد. ومن خلال تجربة عملية ومشاركة شخصية في هذا التحول، أسلط الضوء في هذا المقال على أهم مراحل وخطوات التطور التقني في المملكة، مستعرضًا بعض التحديات والنجاحات التي شكلت ملامح هذه المرحلة التاريخية المهمة.
التحول في الألفية الثانية: رؤية واستراتيجية
مع نهاية الألفية الأولى وبداية الألفية الثانية، بدأت بعض دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بوضع رؤى مستقبلية واضحة للانتقال إلى مجتمع رقمي، ضمن استراتيجيات تمتد حتى عام 2030، هدفت إلى تطوير القطاع التقني ورفع كفاءة الأداء في القطاعين العام والخاص، وتحقيق تنافسية عالمية.
ففي الإمارات، تم توقيع عقد استراتيجي مع شركة مايكروسوفت لبناء أول مدينة إلكترونية في المنطقة، مع بداية الألفية الجديدة، ما مثّل انطلاقة واضحة نحو التحول الرقمي.
أما في المملكة العربية السعودية، فكان الوضع مختلفًا إلى حد ما. فحتى أواخر التسعينات، لم تتجاوز نسبة استخدام التقنية في المجتمع السعودي 3-5%، وكان هذا الاستخدام محصورًا في مؤسسات محددة مثل أرامكو وبعض البنوك الكبرى. أما بقية قطاعات الدولة والشركات الصغيرة والمتوسطة، بالإضافة إلى الأفراد، فكانت تدير أعمالها بالطرق التقليدية.
معوقات انتشار التقنية في التسعينات
تعددت الأسباب التي أعاقت انتشار التقنية في تلك الفترة، ويمكن تصنيفها إلى:
أولاً: أسباب خارجية
1. ارتفاع أسعار أجهزة التقنية والبرمجيات.
2. ضعف شبكات الاتصال، خصوصًا الدولية.
3. ندرة الكفاءات الفنية المؤهلة.
ثانيًا: أسباب داخلية
1. تركيز الدولة آنذاك على مشاريع البنية التحتية من طرق، وجسور، ومياه، وكهرباء.
2. غياب المناهج الدراسية المتخصصة في علوم الحاسوب وتقنية المعلومات.
3. قلة الكوادر التعليمية المؤهلة لتدريس علوم الحاسوب.
4. ارتفاع تكاليف الأجهزة وعدم توفر حلول محلية تناسب السوق السعودي.
تطورات عالمية غيرت المعادلة
مع التطور المذهل في قطاع تقنية المعلومات خلال عقدي التسعينات والألفينات، انخفضت أسعار الأجهزة بشكل ملحوظ، وتحسنت كفاءتها وسرعتها، مع تصغير حجمها وزيادة سهولة استخدامها. كل ذلك ساعد على انتشار الحواسيب بين الأفراد وقطاعات الأعمال الصغيرة والمتوسطة.
لكن رغم ذلك، واجهت الشركات الكبرى المنتجة لهذه الأجهزة تحديًا كبيرًا في الوصول إلى أسواق الدول النامية بسبب ضعف البنية التحتية، وخاصة الاتصالات. ومن هنا جاءت فكرة عقد مؤتمر عالمي يجمع بين شركات الحواسيب وشركات الاتصالات للعمل على حل هذه المعضلة.
وقد عُقد هذا المؤتمر في باريس عام 2000، وكان من أبرز مخرجاته الاتفاق على ضرورة توسيع شبكات الاتصالات لتصل إلى كل بيت في الدول النامية، من خلال تعزيز الكابلات العابرة للدول وتوسيع الاعتماد على الأقمار الصناعية اللاسلكية، تمهيدًا لتوسيع الأسواق الأفقية والرأسية.
دور الفيصلية للوسائل المتكاملة احدى شركات مجموعة الفيصلية في المملكة العربية السعودية
على المستوى المحلي، برز دور شركة “الفيصلية للوسائل المتكاملة” احدى فروع مجموعة الفيصلية التي كان لها السبق في دعم مشروعات إدخال الحاسوب إلى المجتمع السعودي. وقد تم هذا عبر مسارين:
1. شراكة مع شركة HP لتوفير حلول تقنية للمشروعات العملاقة.
2. مشروع وطني رائد لتصنيع وتجميع الحواسيب محليًا تحت اسم “زاى ZAI”
كان المشروع يستهدف إدخال الحواسيب إلى المدارس عبر إدارة التعليم الفني التابعة لوزارة التربية والتعليم العام، بقيادة الدكتور العواد، وكيل التعليم الفنى آنذاك، الذي أبدى دعمًا كبيرًا بعد تجاوز عدد من التحديات الجوهرية:
* تحديد المرحلة التعليمية المناسبة لبداية المشروع.
* غياب منهج معتمد لتدريس الحاسوب.
* نقص المعلمين المؤهلين.
* غياب معامل حاسوب داخل المدارس.
وبفضل الجهود المشتركة بين الفيصلية ووزارة التعليم، تم اعتماد المنهج الأمريكي بعد تعديله محليًا (سعودته)، كما تم تأهيل المعلمين من خلال دورات تدريبية متخصصة، وتم اختيار خمس مدارس ابتدائية كبداية للمرحلة التجريبية، في وقت كان فيه عدد المدارس الابتدائية في المملكة يناهز 11,000 مدرسة.
قامت الفيصلية بتركيب 20 جهاز حاسوب في كل مدرسة، وربطها بشبكة داخلية (إنترانت)، مما شكل انطلاقة فعلية للمشروع، وفتح الباب أمام تعميم التجربة في المستقبل، بالتزامن مع الطفرة التقنية المتسارعة في المملكة.
مشاركة دولية وتقدير رسمي
في عام 2001، تلقت الفيصلية دعوة من صاحب السمو الأمير ماجد بن عبد العزيز آل سعود، أمير منطقة مكة المكرمة آنذاك، للمشاركة في المؤتمر الاقتصادي المنعقد في الطائف، لوضع تصور “رؤية 2010″، وذلك بمشاركة شخصيات دولية بارزة مثل:
السيد/ هيلموت كول، الأمين العام السابق للأمم المتحدة.
السيد/ منعم كارلوس، رئيس وزراء البرازيل الأسبق.
السيد/ جيسكار دسمان رئيس وزراء فرنسا السابق
وعدد من الخبراء الدوليين الذين ساهموا في تطوير مجتمعاتهم وتعزيز اقتصادات دولهم.
وخلال هذا المؤتمر، تم تسليط الضوء على تجربة الفيصلية في إدخال التقنية إلى التعليم، وجرى تدشين مشروع تركيب شبكة الإنترانت وأجهزة كمبيوتر “زاى” بحضور وزير التعليم، تمهيدًا لتوسيع التجربة لتشمل مدارس المملكة كافة.
نتائج ملموسة وتحول رقمي ملحوظ
لقد كان لهذا المشروع أثرٌ بالغٌ في نشر ثقافة استخدام الحاسوب داخل المجتمع السعودي، ورفع الوعي التقني، خاصة بين الجيل الجديد من الطلاب، ما أسهم في تهيئة بيئة خصبة للتحول الرقمي.
ومن المؤشرات التي عكست نجاح هذا التحول، ما ورد في تقرير لقناة BBC، حيث قفزت المملكة العربية السعودية من المرتبة 53 عالميًا في استخدام التقنية إلى المرتبة السادسة خلال عقد واحد فقط. أما الإمارات فقد انتقلت من المرتبة 35 إلى 11، ومصر من 105 إلى 95 خلال الفترة ذاتها.
إن هذا الإنجاز التقني في المملكة لم يكن ليحدث لولا الرؤية الاستراتيجية الحكيمة للقيادة، والدعم المؤسسي، والتعاون الفعال بين القطاعين الحكومي والخاص. لقد شكّل المشروع خطوة فارقة نحو بناء مجتمع معرفي، وأسّس لقاعدة صلبة يمكن البناء عليها لتحقيق أهداف رؤية المملكة 2030 في مجال التحول الرقمي.
إن تجربة الفيصلية، وغيرها من المبادرات الوطنية، تقدم مثالًا حيًا على كيف يمكن للإرادة والرؤية الواضحة أن تحول التحديات إلى فرص، وتسهم في نقل المجتمعات إلى مصاف الدول المتقدمة.