التحول الأيديولوجي في إثيوبيا وصعود “الشرعية الاقتصادية”: دروس للتنمية والديمقراطية بعد انتهاء الحروب الأهلية”
بقلم: وزير المالية الأسبق بروفيسور إبراهيم البدوي
مقدمة:
لقد وصف الأستاذان أديتيا ساركار وأليكس دي وال (خبيرا الاقتصاد السياسى والسياسات العامة فى القرن الأفريقى) فى ورقة لهما نشرت فى العام 2022 عن المال السياسى ودوره فى بناء أو إفشال التسويات السياسية فى إثيوبيا والسودان(1)، وصفا أوجه التماثل والتباين بين الدولتين وصفاً دقيقاً للغاية: “تشترك هاتان الدولتان الناميتان الكبيرتان متعددتا الأعراق في حدود مشتركة ويتدفق خلالهما نهر النيل الأزرق وتواجهان أيضاً مجموعة من التحديات السياسية والاقتصادية التي تتراوح بين النزعات الانفصالية وانعدام الأمن الغذائي المزمن، وكلاهما واجه سيناريوهات انهيار وشيك للدولة منذ مطلع التسعينيات. على مدى جيل بعد ذلك، تبنى النظامان في أديس أبابا والخرطوم سياسات وبرامج سياسية واقتصادية متباينة بشكل جذري، شكلتها القرارت الاستراتيجية لقيادتى الدولتين، واللتان بدورهما تأثرتا بعدة عوامل تتعلق بالأيديولوجيا والموارد المتاحة وأيضاً الموروثات التاريخية الدينية والثقافية. إذا أسقطنا عصارة التجربتين فى شكل صورة كاريكاتورية عن إختيارات النُخب الحاكمة والسياسات العامة، نجد أن إثيوبيا قد أصبحت نموذجاً للدولة التنموية الأفريقية، بينما أعاد السودان إنتاج نظام كليبتوقراطى ريعي مدمر ينذر بأزمة وطنية مستعصية.” (إنتهى الإقتطاف).
“تأمل يا رعاك الله”، كما كان يحلو لعبقرى الرواية العربية أستاذنا الراحل الطيب صالح، عليه الرحمة والرضوان، أن يقول – كأن هؤلاء الباحثان يقرأان المستقبل عن حال السودان ومآله فى مقبل الأيام، فقد أشعلت ذات الطُغمة التى وظفت “سوق المال السياسى” لمشروعها الكارثى، أشعلت هذه الحرب المدمرة بعد أقل من عام من ورقتهما تلك (والتى كنا طلبنا منهما كتابتها لأحد المشاريع البحثية بمنتدى البحوث الاقتصادية لمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط بالقاهرة: https://erf.org.eg/). بلا شك، إذا كانت هناك دولة واحدة علينا فى السودان دراسة مشروعها الوطنى بعمق وتدبر – بما له وعليه من نجاحات وخيبات – وإستخلاص العبر والدروس لبلادنا فهى إثيوبيا.
التحولات الأيديولوجية والبرامجية لنخبة الجبهة الإثيوبية الثورية الحاكمة:
كانت الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية (EPRDF)، التي استولت على السلطة في عام 1991 بقيادة ميليس زيناوي، في الأصل حركة ثورية ريفية مسلحة تنتهج أيديولوجيا ماركسية-لينينية، حاربت نظام الديرغ العسكرى الإنقلابى تحت شعار الصراع الطبقي والاعتماد على الذات والديمقراطية الثورية. إلا أنها عندما وصلت للسلطة واجهت تحديات بالغة، حيث ورثت اقتصاداً مدمراً وتضخماً مفرطاً، بل ومجاعة وإنهياراً كاملاً للدولة ومؤسساتها الحيوية. أجبرت هذه الأوضاع المأزومة ميليس ودائرته المقربة على إعادة التفكير في العقيدة الأيديولوجية الأصولية، حيث أدركت نخبة الجبهة الثورية الحاكمة محدودية “الماركسية الأصولية” فى معالجة التحدي العملي المتمثل في إعادة بناء اقتصاد مدمر فى أمس الحاجة للإنفتاح على الاقتصاد العالمي وفتح الأسواق الخارجية والحصول على النقد الأجنبى لتمويل مدخلات الإنتاج والسلع الاستراتيجية. حينها بدأ ميليس ودائرته المقربة في إعادة تفسير الماركسية من منظور تنموي وبرغماتي، أسفر عن:
اعتماد النظام الفيدرالية العرقية كإطار سياسي (دستور 1995)، حيث جمع بين سيطرة الحزب اللينيني والاعتراف بالتنوع.
وتبنى إصلاحات محدودة موجهة نحو السوق، وفتح التجارة وشجع المشاريع الخاصة الصغيرة – مع الحفاظ على هيمنة الدولة على “المناطق الحيوية” مثل المالية والأراضي.
بحلول منتصف التسعينيات بدأ زعيم الحركة ميليس زيناوي تحولاً فكرياً وأيديولوجياً عميقاً ابتعد عن الماركسية النظرية وبدأ ينظر إلى التنمية الاقتصادية ليس فقط كهدف اقتصادى، بل كأساس للشرعية السياسية. لقد كانت التجارب التنموية لدول شرق آسيا – التى أبانت أنه يمكن توظيف حيوية القطاع الخاص واقتصاد السوق لتحقيق تحولات اقتصادية كبرى فى ظل قيادة الدولة للاقتصاد – ملهمة للجبهة الحاكمة وزعيمها للشروع فى هذا التحول فى فكر الجبهة التنموى. أيضاً، لقد كان مليس زيناوى شديد الاهتمام بالفكر الاقتصادى الحديث وكانت له حواراتٍ معمَّقةٍ مع كبار الاقتصاديين العالميين المحسوبين على الفكر الاقتصادى اليسارى مثل البروفيسور جوزيف ستيغليتز – الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد فى العام 2001 وكان رئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس بيل كلينتون وأصبح بعدها كبير المستشارين الاقتصاديين للبنك الدولى. يُعد ستغليتز أبرز مفكرى المدرسة الاقتصادية الكينيزية الحديثة (Neo-Keynesian Economics)، التى تدعو إلى دور قيادى للدولة فى إدارة الاقتصاد(2). هذا وقد بلغ هذا التحول التدريجي ذروته في عام 2004، عندما أعادت الجبهة تعريف هويتها رسمياً من حركة ثورية إلى حزب تنموي قائم على الشرعية الاقتصادية.
دور شركاء التنمية الدوليين: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتنسيق المانحين:
بعد سقوط نظام الديرغ بقيادة منقستو هايلى مريام، عادت إثيوبيا إلى تطبيع علاقاتها مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، واستعادت إمكانية الحصول على تمويل مُيَسَّر في إطار نافذة “المؤسسة الدولية للتنمية” (International Development Agency: IDA). بين عامي 1992 و1996، حيث نفذت الحكومة برامج الاستقرار الاقتصادى الكلى للسيطرة على التضخم وإصلاح النظام المالي وتحرير التجارة. قبلت إثيوبيا الانضباط الاقتصادي الكلي لكنها رفضت الخصخصة السريعة، مما يعكس التزامها بنموذج تنموي يعبر عن قناعتها الوطنية.
في عام 2001، تأهلت إثيوبيا لمبادرة تخفيف عبء ديون البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (HIPC)، مما خفض عبء ديونها الخارجية بأكثر من 3 مليارات دولار. أدى ذلك إلى خلق مساحة مالية للإنفاق على البنية التحتية والإنفاق الاجتماعي، مفضياً إلى شراكات واسعة مع مجتمع التنمية الدولى. مثلاً منذ عام 2001 أصبحت إثيوبيا واحدة من أكبر متلقي المنح التنموية من المؤسسة الدولية للتنمية في أفريقيا، حيث حصلت على أكثر من مليار دولار سنوياً من البنك الدولي فى شكل دعم مباشر للموازنة والذى أرتفع إلى ثلاث مليار دولار سنوياً. (علينا فى السودان أن نتأمل بحسرة وأسى بأنه وبالنظر لضخامة مديونية السودان الخارجية، كانت بلادنا ستحظى بإعفاء أكثر من خمسين مليار دولار من إجمالى الدين الخارجى الذى بلغ حوالى ستين مليار دولار فى العام 2020 وكان ذلك سيشكل أكثر من ثُلث موارد برنامج ال HIPC منذ إنشائه فى عام 1996، واستفادت منه أكثر من 30 دولة من بينها أثيوبيا).
يجدر بالذكر أحد أهم نتائج هذه الشراكات تمثلت فى دعم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنك التنمية الأفريقي والشركاء الثنائيين مثل وزارة التنمية الدولية البريطانية والاتحاد الأوروبي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية استراتيجيات إثيوبيا الوطنية للحد من الفقر والتى شملت “برنامج التنمية المستدامة والحد من الفقر” (2002-2005)، ثم “خطة التنمية المتسارعة والمستدامة من أجل القضاء على الفقر” (2005-2010) – والتى أرست الأساس لخطط النمو والتحول اللاحقة الموسومة: “جمهورية إثيوبيا الديمقراطية الاتحادية: خطة النمو والتحول I: 2010/11-2014/15” و “جمهورية إثيوبيا الديمقراطية الاتحادية: خطة النمو والتحول II: 2015/16-2019/20”.
التحول الاقتصادي لمشروع “الشرعية الاقتصادية” للجبهة الأثيوبية الثورية:
بحلول وقت وفاة ميليس زيناوي في عام 2012، كانت إثيوبيا قد حققت شكلاً جديداً من التوازن الاقتصادي السياسي القائم على الأداء: التحول من الماركسية الثورية إلى التنمية البراغماتية، مع شرعية سياسية مستمدة من نتائج اقتصادية ملموسة. وقد دعم هذا التوازن دولة تنموية قوية، وإدارة منضبطة للاقتصاد الكلى، ومشاركة مستمرة مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومانحين آخرين. فقد أدى الجمع بين الالتزام المحلي بالشرعية الاقتصادية والشراكة الدولية إلى نتائج مذهلة أعادت تشكيل إثيوبيا فى سياق ثلاث مرتكزات رئيسة:
أ. نمو مرتفع ومستدام:
بين عامي 2004 و2019، نما الاقتصاد الإثيوبي بمعدل 8-10% سنوياً – وقد كان ذلك من أعلى المعدلات في أفريقيا.
أدى الاستثمار الضخم في البنية التحتية والتعليم والصحة والزراعة إلى انتشال الملايين من براثن الفقر، حيث انخفض معدل الفقر من حوالي 45% في عام 1995 إلى أقل من 25% بحلول عام 2015.
ارتفع متوسط العمر المتوقع من 46 إلى 66 عاماً، وتجاوز معدل الالتحاق بالمدارس نسبة 90%
ب. التصنيع بقيادة الدولة:
أطلقت الحكومة خطط النمو والتحول لتوجيه التنمية طويلة الأجل.
وقد جسدت المجمعات الصناعية والسدود الكهرومائية (لا سيما سد النهضة الإثيوبي الكبير) ومناطق التصنيع الموجهة للتصدير ما يسمى ب”المعجزة الإثيوبية”.
ج. إعادة صياغة السلطة السياسية:
تحولت شرعية الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي من النقاء الأيديولوجي إلى الأداء التنموي.
وقد صاغ ميليس هذا التحول على أنه “ديمقراطية ثورية من خلال التحول الاقتصادي” – وهو تغيير في الصورة العامة سمح للنظام بالحفاظ على سلطته المحلية ومصداقيته الدولية.
على الرغم من المخاوف من غياب الديمقراطية، دعم المانحون والمؤسسات الدولية إثيوبيا إلى حد كبير لنتائجها التنموية.
الدروس والعبر المستفادة من المشروع النهضوى الإثيوبى:
تُظهر تجربة إثيوبيا كيف يمكن لنظم يلدان فقيرة، خارجة من حروب أهلية طاحنة أن تعيد تأهيل، بل واختراع مشروعها الوطنى من خلال تبنى “شرعية اقتصادية” وشراكة ذكية مع مجتمع التنمية الدولى تحت سقف ثوابت وطنية متينة. ففى هذا السياق لم تكن الشراكة الإثيوبية مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والجهات المانحة الأخرى شراكة قائمة على التبعية، بل على التصور الاستراتيجي المشترك، حيث عزز الالتزام المحلي والدعم الخارجي بعضهما البعض. فقد أدار ميليس زيناوي العلاقات مع المانحين من خلال استراتيجية تتمثل في تأكيد ملكية السياسات مع المطالبة بتقييم قائم على النتائج بدلاً من التوافق الأيديولوجي. أكسب هذا النهج إثيوبيا سمعة طيبة باعتبارها قصة نجاح تنموية ونموذجاً للشراكة الفعالة بين الدول النامية وشركائها فى مجتمع التنمية الدولى.
على الرغم من الإنجازات الاقتصادية الهامة التي تحققت في ظل نموذج “الشرعية الاقتصادية” الإثيوبى، فإن هذه التجربة تبين أيضاً بأن النجاح التنموي وحده لا يمكن أن يحل محل الديمقراطية التوافقية، لا سيما في المجتمعات المنقسمة اجتماعياً. في حين أن استراتيجية النمو التي قادتها الدولة الإثيوبية حققت تصنيعاً سريعاً، وخفضت معدلات الفقر، وحظيت بإشادة دولية، إلا أنها فشلت في معالجة التوترات العرقية والسياسية الكامنة بشكل كامل، والتي عادت إلى الظهور لاحقاً في صورة صراعات عنيفة. وقد كشف غياب المشاركة السياسية الواسعة النطاق والآليات المؤسسية لتقاسم السلطة سلمياً عن حدود الشرعية القائمة على “الأداء” عندما يظل التماسك الاجتماعي ضعيفاً وتقل الثقة التبادلية بين مكونات المجتمع. عليه، فإن أهم الدروس والعِبر لنا فى السودان من تجربة المشروع الوطنى الأثيوبى هى أن “الشرعية الاقتصادية” شرط لازم لكن إستدامة إنجازها تتطلب الإقتران بالاندماج الديمقراطي والتوازن الفيدرالي والحكم التشاركي – فليس من الممكن تحقيق انتقال مدنى، سلمى ديمقراطى نهضوى بدون الجمع بين الشرعية الاقتصادية والشرعية السياسية.
Sarkar, A. and Alex de Waal (2022). “Thinking Politically About Money: The Changing Role of Political Finance in the Political (un-) Settlements in Ethiopia and Sudan,” ERF Policy Research Working Paper no. 1625, Economic Research Forum, Cairo, Egypt: March.
الاقتصادى الأنجليزى جون ماينارد كينز (1883-1946)، والذى يُعد أب الاقتصاد الكلي الحديث، وهو معروف بأفكاره الثورية التي تدافع عن تدخل الحكومة لتثبيت الاقتصاد ومعالجة البطالة المزمنة. من أبرز أعماله كتاب “النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقد” الذي نُشر عام 1936، والذي عارض فيه الأفكار الاقتصادية الكلاسيكية ودعا إلى سياسات تحفيزية لزيادة الإنفاق الحكومي خلال فترات الركود.