وزير المالية الأسبق بروفيسور إبراهيم البدوي يكتب.. ” رداً على الأستاذ عثمان ميرغني”
تعليق على مقال الأستاذ عثمان ميرغنى الموسوم “أرقام د. ابراهيم البدوى”
– عبر الأستاذ عثمان ميرغني عن تحفظه على تقديرات أوردتها فى مقابلة مع راديو دبنقا، حيث قدرت أن الاقتصاد السودانى قد يحتاج إلى حوالى 11 عاماً من النمو لكى يصل إلى حجم الناتج المحلى الذى كان سائداً قبل حرب الخامس عشر من أبريل 2023. فبحسب رأى الأستاذ عثمان أن الأرقام التى توصلت لها تعكس منهجاً اقتصادياً تقليدياً لا ينسجم مع “الحالة السودانية” الفريدة، حيث بحسب رأيه لا يمكن القياس على ما يسميه البدوي “خط الصفر المرجعي” المتمثل في اقتصاد ما قبل الحرب، لأن السودان حتى في أفضل فتراته لم يكن يمتلك مؤسسات دولة مكتملة أو اقتصاداً مستقراً يمكن اتخاذه أساساً للمقارنة ويؤكد أن السودان ظل يعاني من العقوبات، وانهيار النظام المصرفي، وتدهور المؤسسات، مما يجعل العودة إلى “مرجعية الماضي” فكرة غير واقعية. بدلاً من ذلك يدعو الكاتب إلى اعتماد “خط صفر جديد” ينطلق من مقدرات السودان الحالية والمحتملة – المادية والبشرية والمعنوية والجيواستراتيجية – لبناء الدولة من الأساس، لا لإعادة إعمار ما لم يكن قائماً أصلاً.
إبتداءً أود أن أشكر أستاذ عثمان على تعقيبه وعلى إلقائه المزيد من الضوء على هذا الموضوع الهام. إلا أننى كما سأبين أدناه، ومهما كانت مرجعيتنا ومهما حشدنا من طاقات وإرادة وطنية، لابد أن نبدأ من حيث بدأت هذه الحرب ككارثة وطنية ماحقة غير مسبوقة وبالتالى لا يمكننا القفز فوق آثارها الحالية والمستقبلية والتى ستمتد لعدة سنوات فى أحسن الأحوال وربما، للأسف لعدة أجيال إذا “عادت حليمة لقديمها” بعد الحرب، من حيث الاختلاف والإستعلاء المتبادل وغياب المشتركات الوطنية.
أولاً، قانون السبعين (ال 70):
قانون ال 70 يحدد عدد السنوات المطلوبة ليتضاعف عدد ما (حجم الناتج محلى، طول الطفل الصغير، رصيد حساب التوفير …إلخ.) وذلك بقسمة 70 على معدل نمو ذلك العدد السنوى (أنظر هذا الرابط: Rule of 70 للمزيد من التفصيل):
معدل نمو سنوى 2%: يحتاج الاقتصاد إلى 35 سنة (70 مقسوماً على 2) لكى يتضاعف معدل نمو سنوى 7%: يحتاج الاقتصاد إلى 10 سنين (70 مقسوماً على 7) لكى يتضاعف
معدل نمو سنوى 10%: يحتاج الاقتصاد إلى 7 سنين (70 مقسوماً على 7) لكى يتضاعف
وأسارع لأشير إلى أن قانون ال70 هو معادلة رياضية لوغرثمية صماء وليست إفتراض أو تقدير، بالتالى هى حقيقة رياضية تماماً كما أن (1+1=2).
ثانياً، المرجعية وحجم الناتج المحلى:
الحقيقة الماثلة التى لا جدال فيها هو أن المؤشر الاقتصادى الأبرز لتحديد مستوى المعيشة بصورة تقريبية هو حجم الناتج المحلى للفرد: بلغ الناتج المحلى الإجمالي للسودان عام 2022 حوالي 51.67 مليار دولار أمريكي، بينما بلغ دخل الفرد (الناتج المحلي للفرد) حوالي 1,046 دولاراً أمريكياً، حيث صنف السودان كدولة “فقيرة، منخفضة الدخل”. بحسب تقديرات متواترة لعدد من منظمات التنمية الدولية والإقليمية فقد الاقتصاد السودانى جراء الحرب الحالية ما بين 40 إلى 50% من الناتج المحلى الإجمالى. أى أن حجم الناتج المحلى الآن يتراوح بين 30 إلى 25 مليار دولار. وهذا الإنهيار الاقتصادى غير المسبوق يعود لطبيعة هذه الحرب والتى ليست كغيرها من الحروب الأهلية التى شهدها السودان أو البلدان النامية الأخرى. من حيث القوة التدميرية التى أُستخدمها طرفى الحرب وتوابعهما، تماثل هذه الحرب حرب دولتين لكن فى حدود دولة واحدة. أيضاً، على عكس الحروب الأهلية التقليدية التى عادة ما تتأثر بها بصورة مباشرة مناطق ريفية نائية، بعيدة نسبياً عن العمق الاقتصادى والسكانى، إشتعلت هذه الحرب فى مركز القرار السياسى والثقل الاقتصادى فى العاصمة وإمتدت بعدها لتشمل معظم المدن الكبرى فى البلاد وتأثرت بها كل المرافق الحيوية وسلاسل الإمداد والقيمة فى الاقتصاد. كذلك، الحرب الحالية شديدة الشبه بالحرب السورية والتى أدت إلى فقدان ثلاثة أرباع الناتج المحلى السورى، حيث إنخفض من حوالى 80 مليار دولار عام 2010 إلى 20 مليار دولار بحلول عام 2016.
ثالثاً، متى نستطيع الوصول للناتج المحلى الإجمالى لما قبل الحرب:
كما أشرت أعلاه، قانون ال 70 حقيقة رياضية لا يمكن القفز فوقها. كذلك لا أعتقد يمكن التشكيك فى التقديرات الخاصة بإنهيار الاقتصاد السودانى بنسبة تقارب 50%. إذن علينا مقاربة معدلات النمو المتوقعة إذا وضعت هذه الحرب أوزارها بعد خمس شهور بإذن الله (أى بعد ثلاث سنوات من الخامس عشر من أبريل 2023).
أدناه أعلى معدلات نمو لاقتصادات ما بعد الحروب الأهلية لدول توفرت لديها نخب حاكمة أقامت أنظمة حكم تندرج فى تصنيف “الشمولية التنموية”، إلا أنها كانت لديها مشاريع نهضوية وإجماع على استحقاق “الشرعية الاقتصادية” كمبرر ووسيلة للحفاظ على سلطتها (بالمقابل، نظام الإنقاذ “الكلبتوقراطى” البائد قد جمع بين الفساد المؤسسى والإستبداد وأعتمد على “التمكين” للحفاظ على سلطته):
رواندا (بعد الإبادة الجماعية 1994): معدل النمو: تراوح بين 8% و12% سنوياً خلال الفترة 1996–2013
فيتنام (بعد الحرب الأهلية وانتهاء الانقسام 1975): معدل النمو: نحو 7% سنوياً في المتوسط منذ إصلاحات “دوي موي” عام 1986
كمبوديا (بعد الحرب الأهلية ونظام الخمير الحمر): معدل النمو: حوالي 7% سنوياً بين 1998–2019
إثيوبيا (بعد الحرب الأهلية وسقوط نظام منغستو 1991): معدل النمو: متوسط 8–10% سنوياً خلال 2004–2016
موزمبيق (بعد اتفاق السلام 1992): معدل النمو: تجاوز 10% سنوياً بين 1996–2006.
بالمناسبة أعلى معدلات نمو فى تاريخ السودان الحديث حدثت خلال العشر سنوات التى أعقبت إتفاقية أديس أببا فى 1972 وإنتهاء الحرب الأهلية الأولى والتى شهد فيها السودان تدفقات استثمارية ضخمة فى إطار برنامج “السودان سلة غذاء الوطن العربى”، حيث بلغ متوسط معدل النمو حوالى 10% سنوياً خلال الفترة من 1972 حتى 1983، عندما إشتعلت الحرب الأهلية مجدداً، كما هو معلوم.
خاتمة:
تأسيساً على ما تقدم، فى أحسن الأحوال، لم يُسجَّل نمواً إقتصادياً متواتراً لعدة سنوات بمتوسط يفوق 10% سنوياً للدول الخارجة من الحروب الأهلية وهى دائماً الأسرع نمواً فى العالم بسبب عوامل “نمو اللحاق”، كنتيجة لإعادة بناء البنية التحتية وتشغيل سلاسل الامداد والقيمة …إلخ. عليه، بإفتراض أن الاقتصاد السودانى سينمو بمعدل 10% سنوياً، سنحتاج إلى حوالى سبع سنوات (70 مقسوماً على 10) ليصل الاقتصاد السودانى إلى 50 مليار دولار كما فى العام 2022 فبل الحرب. أما إذا توخينا الواقعية وأفترضنا أن معدلات النمو على الأرجح ستكون حوالى 7% سنوياً، سوف يصل الاقتصاد السودانى إلى حجم الناتج المحلى قبل الحرب بعد عشر سنوات (70 مقسوماً على 7).
لكن إذا إرتقت النخبة السياسية لمستوى التحدى وأستصحبت “الشرعية الاقتصادية” فى سياق تحالف تنموى عريض يلتزم بتحقيق نمو مستدام بمعدل يتراوح بين 7 و10% يمكن أن يتضاعف الاقتصاد السودانى ثمانى مرات (من 30 إلى 240 مليار دولار) خلال 20 إلى 30 عاماً. عندها سيصبح للسودان وأهله شأن آخر من السلام والعزة والرفعة التى يستحقونها.
لكن علينا أولاً التعرف على حجم الكارثة وعدم محاولةالقفز فوقها ومن ثم صياغة مشروع وطنى نهضوى، يستهدى بعقد اجتماعى سياسى-اقتصادى مزدوج.