نذير الجيش السوداني بحرب مائة عام و48 مليون شهيد!
عائشة البصري
مرّة أخرى، تصطدم محاولات واشنطن وأطراف إقليمية ودولية عديدة لإيقاف الحرب في السودان بإصرار قيادة الجيش السوداني على رفض المشاركة في جولة محادثات سلام استمرّت عشرة أيام في جنيف، أخيرا، بحضور ممثلين عن قوات الدعم السريع. كان الجيش يبرّر سابقاً رفضه الجلوس على طاولة المفاوضات بعدم التزام “الدعم السريع” بسحب قواته من منازل المواطنين والمرافق المدنية، كما نصّ عليه اتفاق جدّة. لكن قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، كشف السبت 24 أغسطس/ آب الحالي، أن السبب الحقيقي لرفضه الحوار يعود إلى إصرار واشنطن على إرسال وفد من الجيش إلى جنيف وليس من الحكومة، مع العلم أن الإدارة الأميركية لا تعترف بالحكومة السودانية منذ انقلاب الجيش على الحكومة المدنية في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021. وبإفصاحه عن مربط الفرس، شدّد البرهان على أنه لن يُدخل الجيش في مفاوضات مع “الدعم السريع” إلا باسم الحكومة، معلناً عن قرب تشكيل حكومة حرب مدنية لقيادة “الفترة الانتقالية”.
لا يتعلق، إذاً، تعطيل الجيش عملية السلام بحرصه على حياة المدنيين وحفظ ممتلكاتهم، فهذه مزاعم يستحيل أن يصدّقها من يستحضر تاريخ الحروب الدامية التي شنّها الجيش السوداني وباقي الأجهزة الأمنية ضد المدنيين في جنوب البلاد وغربها وشرقها وصولا إلى عاصمة البلاد 30 عاما من عمر نظام عمر البشير. أما وقد أعرب البرهان عن استعداده لمواصلة الحرب مائة عام، فإن الهدف الحقيقي لمناهضته أي جهود سلام هو البقاء في الحكم بأي ثمن؛ ما يعيد إلى الأذهان ما قاله الفريق أول ياسر العطا، قبل بضعة أشهر، من أن الجيش لن يركع لـ”الدعم السريع” حتى لو استشهد 48 مليون سوداني.
اتضحت الصورة ولم يعد هناك شك بشأن استعداد الجيش للتضحية بالشعب السوداني بأكمله من أجل البقاء في السلطة. ومع ذلك، ما زال هناك من يحاول تبرئته، بإلقاء اللوم على الحركة الإسلامية باعتبارها “طرفا ثالثا”، خصوصاً بعد أن فرضت واشنطن عقوباتٍ على زعيمها، وزير الخارجية السوداني الأسبق، علي كرتي، في سبتمبر/ أيلول 2023. لكن الحديث عن الجيش طرفا منفصلا عن الحركة الإسلامية غير دقيق، قد يبرّئه من دور مُفسد فرص تسوية سياسية سلمية، بحسب التعريفات الأكثر انتشارا للمفسدين (spoilers) في أدبيات دراسات النزاع، أي الأطراف التي تعتقد أن فرص السلام تهدّد سلطتها ومصالحها، وتستخدم العنف لإفشال محاولات تحقيقها.
أما عن الطابع الإسلامي للجيش، فيكفي التذكير بأن الجبهة الإسلامية القومية، بقيادة حسن الترابي، هي التي نظمت في يونيو/ حزيران عام 1989 انقلابا عسكريا ضد حكومة الصادق المهدي المنتخبة ديمقراطيا، وعيّنت أحد أعضائها، العميد عمر حسن البشير رئيساً. وفي 1998، تأسّس حزب المؤتمر الوطني السوداني على أنقاض حزب الترابي، محافظا على الخلفية الإسلامية ذاتها. على هذا الأساس، شهدت فترة “التمكين” التي عقبت الانقلاب عملية تصفية الجيش من العناصر التي شُكّك في ولائها للحركة الإسلامية، بشقّيها، الجبهة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني لاحقاً، واتسمت الثلاثون عاما من حكم العسكر والإسلاميين بسياسة المليشيات التي أوجدت جيشاً غير نظامي، تحت إمرة القوات المسلحة، انتهت بتغوّل مليشيا الدعم السريع على الجيش.
قبل هذه الحرب، عمل الجيش السوداني، تحت إشراف البرهان، على تمكين مليشيا الدعم السريع، وسمح بتمدّدها وتسليحها بأحدث الأسلحة
ثم جاءت موجة الثورة لتهدّد وجود النظام، فلم يكن أمام الجيش إلا التحايل عليها لالتقاط أنفاسه. بمساعدة معظم القوى السياسية، بما في ذلك تحالف قوى الحرية والتغيير، نجح الجيش في ترويج أسطورة انحيازه للثورة، بينما كان ما فعله مجرّد انحناء أمام ثورة شعبية عارمة، خوفاً من أن يقود ضبّاط صغار، بدأوا في الانضمام للثورة، انقلاباً حقيقياً على النظام الذي سعى الجيش إلى إبقائه. هكذا عزل الجيش البشير، وأبقى حزب المؤتمر الوطني في الظلّ، ثم دخل لعبة الانتقال الديمقراطي، بينما كان يمهد لإحكام قبضته على السلطة من خلال نسخة جديدة من النظام ذاته، تضمن إعادة تدوير قيادات “المؤتمر الوطني”.
خلال الفترة الانتقالية التي دامت حوالي سنتين، عمل الجيش، تحت إشراف البرهان، على تمكين مليشيا الدعم السريع، وسمح بتمدّدها وتسليحها بأحدث الأسلحة، وانتداب مئات ضباط الجيش لخدمتها. تحالف الطرفان في قتل الثوار وقمعهم، وتعطيل العملية الانتقالية التي انتهت بانقلاب 25 أكتوبر، وكان من الطبيعي أن تتصدّر أولى قراراته تجميد “لجنة إزالة التمكين” التي كانت تعمل على فصل المنتسبين للنظام المعزول وإبعادهم من مفاصل مؤسّسات الدولة الرئيسة واسترداد الأموال العامة التي يعتقد أن قادة النظام السابق حصلوا عليها بطرق غير مشروعة. مباشرة عقب الانقلاب، أعاد الجيش القادة الإسلاميين للسيطرة على أجهزة الدولة، ليتضح أن الجيش ما هو إلا واجهة الحركة الإسلامية.
لم يثبت الوضع على هذه الحال، وهبّت جهود إقليمية ودولية، بقيادة واشنطن، بما لا يشتهيه الجيش ومليشياته. إذ أسفر الحوار بين البرهان وقوى الحرية والتغيير بمشاركة قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، توقيع الاتفاق الإطاري في ديسمبر/ كانون الأول 2022، الذي نص على عودة أحزاب الحرية والتغيير إلى السلطة الانتقالية، وإخراج الجيش من السياسة والاقتصاد، وإدماج “الدعم السريع” في الجيش. بمنطق الربح والخسارة، كان الجيش الذي حكم البلاد ما يزيد عن نصف قرن الخاسر الأكبر، يليه “الدعم السريع”. وكان من مصلحة الطرفين وقف تنفيذ الاتفاق، وإن اقتضى الأمر الدخول في مواجهة عسكرية لحسم ميزان القوة بينهما. أخطأت حسابات الجيش وإسلامييه بتعويلهم على حسم المعركة في أقلّ من أسبوع، ليصطدموا بحقيقة ضعف العسكر أمام مليشيات خرجت من رحمه.
مباشرة عقب انقلاب 25 أكتوبر، أعاد الجيش السوداني القادة الإسلاميين للسيطرة على أجهزة الدولة، ليتضح أن الجيش واجهة الحركة الإسلامية
لقد أوضحت الحرب الجارية بين الجيش و”الدعم السريع” التي تخوضها إلى جانبهما قبائل ومليشيات وكتائب جهادية قديمة وجديدة ومواطنون مجيّشون أنه لم يطرأ على الجيش أي تغيير، إذ ما زالت القوات المسلحة جيشا للحركة الإسلامية، فكل من البرهان وشمس الدين الكباشي وياسر العطا وغيرهم من جنرالات البشير هم جزء من الحركة الاسلامية، وإن لم يكن بعضهم أعضاء معلنين فيها، فهم ينفذون أجندتها التي ما زلت تدور حول بقاء النظام الإسلامي – العسكري بشكل أو بآخر، وإن تطلب الأمر تجنيد حركات جهادية، من قبيل “كتيبة البراء بن مالك” التي تضم قوات من “الدفاع الشعبي” الذي كان يضم نحو مائة ألف مجاهد من شباب الحركة الإسلامية. رفض البرهان حلّ “الدفاع الشعبي”، أحد مطالب الثورة، وأعاد تسميتها “قوات الاحتياط”، إلى أن سمح لها الجيش بالعودة في شكل كتيبة جهادية تُنذر بالأسوأ.
ومن مفارقات المشهد السياسي السوداني العبثية أن مليشيا الدعم السريع أصبحت تتبنّى سردية الثورة، وتتعهد بدعم الانتقال الديمقراطي والحكم المدني، وتوظّف قبولها الجلوس على طاولة المحادثات لإنهاء الحرب ورقةً لتحسين صورتها الملطّخة بالدماء والحفاظ على مكاسبها على الأرض، من أجل بقائها في المشهد السياسي وإبعاد الجيش منه. يدرك الجيش لعبة “الدعم السريع”، وأن من شأن عودة قوى الحرية والتغيير تحت مسمّى جديد، تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدّم)، أن يُعيد الاتفاق الإطاري إلى الواجهة، ويهدّد بإبعاد الجيش من السلطة وتفكيك حقيقي لمؤسسات النظام الاسلامي العسكري الذي ما زال الجيش بقيادة البرهان وفلول حزب المؤتمر الوطني يحاربون من أجل بقائه.
هذا ما يفسّر، في تقديري، خطورة عملية إفساد الجيش عملية السلام عبر استمرار الحرب تحت شعار “جيش واحد، شعب واحد”، في حين أن شعاره قد أصبح “أنا ومن بعدي الطوفان” بعد أن هدّد بحرب مائة عام و48 مليون “شهيد”.