وزير المالية الأسبق بروفيسور إبراهيم البدوي يكتب.. الرباعية بين تحديات “التحالف الشمولى”ومحدودية “الوضع الطبيعي” الجديد في بناء السلام
المقال الرابع
مقدمة:
في 12 سبتمبر 2025، أصدرت دول الرباعية المكوّنة من الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية والإمارات ومصر بياناً مشتركاً بشأن الحرب الدائرة في السودان، أكدت فيه أن النزاع أدى إلى أسوأ أزمة إنسانية في العالم ويمثل خطراً على السلم الإقليمي. شدد البيان على وحدة السودان وسيادته ونفى وجود حل عسكري للصراع، داعياً إلى هدنة إنسانية أولية مدتها ثلاثة أشهر، تتبعها عملية انتقالية شاملة وشفافة خلال تسعة أشهر تنتهي بتشكيل حكومة مدنية مستقلة تتمتع بشرعية واسعة ومساءلة. كما نص البيان على ضرورة وقف الدعم العسكري الخارجي لأطراف النزاع وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى جميع أنحاء السودان. هذه المبادرة، بما تحمله من عناصر سياسية وإنسانية، أثارت ردود أفعال متباينة في الساحة السودانية، ما يستدعي دراسة معمقة لآفاقها والتحديات التي تواجهها، وما يجب على القوى المدنية الديمقراطية القيام به لضمان أن تكون عملية الانتقال تعبيراً حقيقياً عن الإرادة الشعبية.
أولاً، تباين المواقف تجاه مبادرة الرباعية:
لقيت المبادرة تأييداً ملحوظاً من القوى المدنية الديمقراطية، وعلى رأسها تحالف “صمود”، الذي اعتبرها خارطة طريق واقعية لإنهاء الحرب المستمرة منذ أبريل 2023. ورأى المدنيون أن هذه المبادرة تفتح نافذة جديدة نحو وقف شامل لإطلاق النار وبناء عملية انتقالية تستند إلى المشاركة الواسعة للمدنيين، بعيداً عن سيطرة الأطراف المسلحة. في المقابل، تبنت حكومة بورتسودان موقفاً أكثر تحفظاً، إذ رفضت المساواة بينها وبين قوات الدعم السريع، وأصرت على أن أي تسوية يجب أن تراعي سيادة السودان وشرعية مؤسساته القائمة. أما تحالف تأسيس، فقد أعلن ترحيبه بالبيان، واعتبره فرصة لمعالجة جذور الأزمة السياسية وبناء دولة جديدة، بينما جاء موقف الحركة الإسلامية وحلفائها رافضاً تماماً، حيث وصفت المبادرة بأنها وصاية خارجية ومؤامرة تستهدف إقصاء الإسلاميين وإضعاف الجيش، وهاجمت الدول المشاركة فيها، خاصة مصر والسعودية والإمارات.
ثانياً، الآفاق والتحديات:
رغم هذا الانقسام الداخلي، فإن المبادرة تحمل فرصاً مهمة يمكن البناء عليها. فهي تحظى بدعم إقليمي ودولي واسع يشمل الاتحاد الأفريقي وإيقاد والجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي، ما يمنحها زخماً إضافياً على الساحة الدبلوماسية. كما أنها توفر أساساً لإطلاق مسار سياسي مدني شامل بعد إخفاق مبادرات عديدة سابقة. الأهم من ذلك أنها تناولت بوضوح مسألة وقف الدعم العسكري الخارجي الذي يعد عاملاً مركزياً في استمرار الحرب. غير أن الطريق أمام تنفيذ هذه المبادرة سظل محفوفاً بتحدياتٍ كبيرةٍ. فالانقسام الداخلي بين القوى السودانية يعكس غياب أرضية توافق وطني، ويهدد بتحويل المبادرة إلى مجرد تسوية بين النخب المسلحة. كما أن هناك خطراً حقيقياً من إعادة إنتاج شراكة كارثية بين العسكريين على غرار ما حدث بعد ثورة ديسمبر 2018، إذا لم يُضمن الدور المركزي للقوى المدنية. يضاف إلى ذلك أن تضارب أجندات الدول الراعية للمبادرة واحتمال توظيفها لخدمة مصالحها الإقليمية، سواء في البحر الأحمر أو في ملفات النفوذ السياسي والاقتصادي، قد يعقد المشهد ويحد من استقلالية القرار السوداني. فضلاً عن ذلك، فإن استمرار العمليات العسكرية والكارثة الإنسانية يضعف فرص نجاح أي هدنة أو عملية سياسية.
ثالثاً، التحالف “الشمولى” الرافض للمبادرة:
لقد بدا واضحاً من ردود الأفعال الرافضة للمبادرة أن هناك ما يشبه تحالف “أمر واقع” غير مكتوب بين الحركة الاسلاموية وما أسميته كيان “الشمولية الوظيفية” من جهة و”تحالف التغيير الجذرى”، الذى يسيطر عليه الحزب الشيوعى وأذرعه المتعددة. فليس مستغرباً توافق مجموعات النُخب التقليدية القبلية والجهوية وأيضاً بعض قيادات الأحزاب التقليدية – التى تشكل كيان “الشمولية الوظيفية” – مع الحركة “الاسلاموية” فى سياق المشروع الشمولى المستند إلى عسكرة السياسة والاقتصاد واستمرار الحرب طالما سيفضى وقفها وبناء السلام إلى إنهاء العسكرة والتحول المدنى الديمقراطى. فقد غرفت معظم هذه الكيانات من مال “السوق السياسى” الحرام ما شاء الله لها طيلة عهد الإنقاذ وقدمت الدعم المتواصل لذلك النظام حتى وهو يترنح قبل سقوطه، أو هكذا خُيِّل لنا.
فقد أصدرت الحركة الإسلاموية بياناً بالغ الإستعلاء والعنجهية، أعلنت فيه “الوصاية” على السودان وشعبه وجيشه:
“الحركة الإسلامية السودانية، التي تمثل الإرادة الحقيقية للشعب السوداني، تؤكد أنها الضمانة الوحيدة لحماية الدين والوطن والحفاظ على سيادة السودان واستقلاله. الجيش والشعب السوداني تحت وصايتنا الوطنية، ولن نسمح لأي قوة خارجية، مهما عظمت، بأن تفرض قراراتها على شعبنا أو أن تحدد مسار الحرب أو السلام وفق أجندتها. أي هدنة أو وقف حرب يفرضه الخارج هو محاولة واضحة لإضعاف الإسلاميين والسيطرة على القرار الوطني، وإعطاء فرصة للعملاء والأدوات الداخلية للتمدد في مؤسسات الدولة والسيطرة على الشعب.”
بالتوازى مع البيان الاسلاموى، اكدت ما يسمى “القوى الوطنية السياسية والمجتمعية (قواسم)” فى بيانها بعد اجتماعها مع مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة:
“موقفها الثابت من رفض بيان الرباعية الذى وجد مناهضة ورفض من كل القوى الوطنية الداعمة للقوات المسلحة ولمؤسسات الدولة الشرعية ولمعركة الكرامة ورفض المساواة ما بين الجيش الوطني والمليشيات. كما استنكرت القوى السياسية الوطنية جلوس مبعوث الأمين العام مع الحاضنة السياسية للمليشيا بشقيها صمود وتأسيس باعتبارهما شركاء في جرائم الابادة الجماعية والتطهير العرقي التى ظلت ترتكبها المليشيات والمرتزقة. بالاضافة الى ذلك ابدت القوى السياسية رفضها التام للتدخلات الخارجية والاملاءات التى تقوض سيادة الدولة وتفرض الوصاية الدولية فى تحديد مستقبل السودانيين .”
لكن ماذا دهى الحزب الشيوعى وتحالفه “الجذرى”؟ برأى، لا أجد مبرراً لمواقفه المتماهية تماماً مع الحركة الاسلاموية وتوابعها سوى كراهية غريبة الأطوار لتحالفات ومكونات القوى المدنية الديمقراطية الأخرى، الأمر الذى جعل الجذريين وحزبهم القائد وتوابعه يأتون بسردية “دونكيشوتيه” من قبيل “العنتريات التى لم تقتل ذبابة”، كما قال الشاعر نزار قبانى، فى تجاهل تام للمخاطر الوجودية التى تشكلها هذه الحرب المصنوعة والتى هم يعرفون تماماً من صنعها وأصر على رفض كل مبادرات السلام المتكررة لإنهائها. ففى هذا السياق أصدر التحالف الجذرى بياناً قدم فيه “دروساً عن السيادة والوطنية”، ممارساً تصعيداً استعلائياً كعادته لا أساس له فى أرض الواقع:
“أتى بيان ”الرباعية الدولية” بشأن السودان وهو يَحمِلُ تَدخُّلاً واضحاً غير مستحق، وتعدياً على سيادة السودان واستقلالية قراره الوطني، ومُعرِباً عن محاولةٍ مكشوفة لفرض وصايةٍ كاملة علي شعبنا وعلي ثورته الخالدة، وعلى سيادةِ بلادنا، واستمراراً لمحاولةٍ لتوجيه قرارنا الوطني ورهنه لِصالِح دول الرباعية وتطلعاتها.” … ” ولضمان وجود حكومة مدنية ذليلة تابعة “مستأنسة” وخاضعة لنفوذهم تعمل لحماية مصالحهم لا مصالح شعبها ولتصبح سيفاً مسلطا ضد قوي ثورة ديسمبر المجيدة المتمسِّكَةِ بشعاراتها ومبادئها.”
ونتسآل هل حدث فى تاريخ السودان الحديث منذ الاستقلال تعدياً على السيادة وانتهاكاً لإستقلالية البلاد ومقدراتها أكثر من الذى حدث ويحدث جراء هذه الحرب. بل، إن السودان يا أصحاب “التغيير الجذرى” ليست له سيادة البته فى ظل هذه الحرب، بل قد لا يكون موجوداً إذا لم يتم وأد هذه الفتنة بأسرع ما يمكن. أيضاً، هل هناك حكومة “ذليلة تابعة مستأنسة” أكثر من حكومة الأمر الواقع التى تساكنت قيادة الحزب الشيوعى الحالية معها، بل وقدمت لها المشورة والنصح. وهل هناك من سعى لإجهاض “ثورة ديسمبر” المفترى عليها أكثر من معسكر الحرب المليشياوى الذى يتماهى معه موقفكم من الرباعية، فقط لأن عودة المسار المدنى بقيادة قوى وتحالفات مدنية ديمقراطية أخرى أصبح بالنسبة للجذريين دونه “خرط القتاد”، تماماً كما صرح الاسلامويين بشأن عودة الاتفاق الإطارى فى تلك الليالى الرمضانية قبل حربهم المشئومة.
للحزب الشيوعى الحق فى الزعم بتميزه عن الآخرين بحسبان وجود قيادته العليا فى داخل البلاد بمناطق سيطرة القوات المسلحة وحلفائها من البرائيين والمشتركة ولكن ما هو الثمن: هل ياترى كان ذلك الانحياز الفاضح فى المواقف لدرجة وصف جمهور الدعم السريع ب”البروليتاريا الرثة” وهو تعبير أطلقه ماركس – فى سياق مختلف تماماً عما يدور الآن فى السودان – على ” الطبقة الدنيا من المجتمع الرأسمالي، وتتكوّن من عناصر مهمّشة، عاطلة عن العمل، لا تشارك في الإنتاج بشكل منتظم، مثل: المتسولين، المجرمين الصغار، المرتزقة، البغاء، وأشباه العمال الموسميين الذين لا ينتمون تنظيمياً أو اقتصادياً إلى طبقة عاملة مستقرة”. أو هل يا ترى كان الثمن محاولة تزييف التاريخ من قبيل افتراء هنادى فضل، القيادية فى الحزب الشيوعى، على الخليفة عبد الله بن السيد محمد، خليفة الإمام المهدى، مما يشى بأن هذا الحزب العتيد قد فقد البوصلة الوطنية القومية، وأصبح فى حاجة ماسة لمراجعة جذرية، شأنه شأن كل الأحزاب السودانية التاريخية الأخرى والتى فرقت هذه الحرب الماحقة قياداتها وكوادرها أيدى سبأ.
رابعاً، محدودية “الوضع الطبيعي” الجديد في بناء السلام:
برزت مبادرة الرباعية كجهد دبلوماسي كبير لإنهاء الحرب الأهلية المدمرة في السودان. ورغم أنها توفر فرصة للإغاثة الإنسانية ومساراً للانتقال السياسي، فإنها معرضة لخطر إعادة إنتاج ما أسماه السيد/عبدول محمد في مقال نشر مؤخراً(2): “الوضع الطبيعي الجديد” (the New Normal) في بناء السلام: نهج قائم على “تسليع” عملية السلام، ومتمركز حول وقف إطلاق النار، وتقوده النخبة، ويستبدل التسويات السياسية الحقيقية بمساومات قصيرة الأجل. وبحسب عبدل، إذا لم يتم التحكم في هذا النهج، فإنه قد يؤدي فقط إلى توقف هش للعنف، وترسيخ حكم أمراء الحرب، وتهميش الجهات الفاعلة المدنية، وإطالة أمد دورات الصراع. ولتجنب ذلك، يجب على المبادرة الرباعية أن تتجاوز المنطق الضيق لوقف إطلاق النار والصفقات بين النخبة، وأن تدعم بدلاً من ذلك عملية سلام قائمة على المبادئ وشاملة ومتجذرة إقليمياً.
عليه، تأسيساً على هذه الرؤية النقدية البناءة، يجب على المجموعة الرباعية الالتزام بما أعلنته بشأن ربط وقف إطلاق النار بالتحول السياسي الحقيقي، وترسيخ العملية في الشرعية الإقليمية، وتركيز الاهتمام على تطلعات المدنيين السودانيين. عندها فقط يمكن للسودان أن يخرج من دوامة الحرب ويتجه نحو سلام دائم. عليه، فإن القوى المدنية الديمقراطية معنية بدعم هذه المبادرة ودفعها فى الاتجاه الصحيح بعن طريق بناء جبهة عريضة يكون لها مشروع وازن وحضور ميدانى وإعلامى فاعل يحظى بتوافق وطنى عريض.
خامساً، كلفة الحرب وآثارها الاجتماعية:
من الأهمية بمكان النظر إلى الحالة السودانية فى سياق ما ألحقته هذه الحرب بالسودان وأهله وماذا يعنى استمرارها وتداعياتها الوجودية، الأمر الذى يتوجب على كل القوى الوطنية المخلصة وضع إنهاء الحرب كأولوية قصوى، وكشرط لازم لتحقيق المشروع الوطنى لبناء تحول سلمى مدنى ديمقراطى نهضوى. فقد تسببت الحرب فى مأساة إنسانية واقتصادية هائلة. تشير البيانات إلى أن عدد الضحايا تجاوز مئات الآلاف من القتلى بين المقاتلين والمدنيين، بينهم نساء وأطفال، بالإضافة إلى ملايين النازحين داخلياً وخارجياً، مما أدّى إلى انهيار الأمان المعيشي للناس في المناطق المتضرّرة. فقد تضرّرت البنى التحتية العامة بصورة كبيرة: المستشفيات تُدمَّر أو تُحتَل، الخدمات الصحية تتعطّل، المدارس تُغلق أو تُستخدم كملاجئ، والمرافق الأساسية مثل المياه والكهرباء تتعرض لانقطاعٍ واسع.
من الناحية الاقتصادية، تشير التقديرات إلى خسائرٍ ضخمة، حيث قُدِّر أن الناتج المحلى قد إنكمنش بنسبة 40% مقارنة بمستواه في 2022. أما إذا استمرت الحرب، لا سمح الله، لمدة خمس شهور أخرى ، حتى مارس 2026، يمكن بحسب محاكاة لنموذج النمو طويل الأجل أن تكون الخسارة الاقتصادية المترتبة على هذه الحرب فى ثلاث سنوات (مقارنةً بمستوى الناتج المحلي الإجمالي الذي كان من الممكن الوصول إليه فى حالة عدم نشوب الحرب مع معدل نمو سنوى بنسبة 4%) أكثر من 160 مليار دولار (أى أكثر من خمسة أضعاف الناتج المحلى للسودان فى العام 2022 قبل نشوب الحرب). وحتى إذا وضعت الحرب أوزارها فى مارس 2026 ستحتاج البلاد إلى إحدى عشر عاماً بالتمام والكمال لتصل إلى مستوى الناتج المحلى للعام 2022 قبل نشوب الحرب (راجع ورقة البدوى وفيوراتى، 2024)(1). كما قُدّرت الخسائر الاقتصادية في قطاع النفط والتكرير، وفي المرافق الإنتاجية، فمثلاً مصفاة الجيلي تعرضت لأضرار تُقدَّر بمليارات الدولارات نتيجة القتال. وفي الخرطوم وبقية الولايات تُقدَّر كلفة إعادة الإعمار بنحو 300 مليار دولاراً للعاصمة، مضافاً إليها قرابة 700 مليار دولار لبقية البلاد. تؤكّد هذه الأرقام أن كلفة الصراع تفوق بكثير ما يمكن تحمّله من الشعب والدولة، وأن الأجل الطويل سيشهد تداعيات اقتصادية واجتماعية يصعب تداركها دون وقف الحرب وإطلاق عملية بناء سلام شاملة.
أما على الصعيد الاجتماعى، فالحرب قد دمّرت حق الأطفال في التعلّم (ملايين خارج المدرسة)، وأطلقت موجات أوبئة (كوليرا) وسوء تغذية انهار بسببها النظام الصحي. وهناك مزاعم عن استخدام مواد خانقة مثل الكلور، مضيفة أنواع جديدة من المخاطر الصحية على المواطنين. وفي دول اللجوء، تمثّل النساء والأطفال النسبة الأكبر من اللاجئين، وسط فجوات تمويل وخدمات تعليم وصحة وحماية لا تواكب حجم الكارثة. الصورة الإجمالية: أزمة إنسانية شاملة عابرة للحدود لن ينهيها سوى وقف موثّق لإطلاق النار يتبعه مسار سلام ذي مصداقية يعيد بناء المؤسسات والخدمات الأساسية (منظمة الصحة العالمية).
فى هذا السياق اليكم موجزاً محدَّثاً – حتى سبتمبر 2025 – حول الآثار الكارثية لهذه الحرب.
خسارة التعلّم:
تشير يونيسف إلى أن نحو 16.5 مليون طفل في السودان فى حالة تسرب مدرسى بسبب الحرب (كان 7 ملايين خارجها قبلها)، ما يهدّد بانهيار المنظومة التعليمية ويعمّق “فجوة التعلّم” للأجيال القادمة.
تقديرات أخرى حديثة تؤكّد أن أكثر من ثلاثة أرباع الأطفال في سن الدراسة لا يرتادون المدارس مع بداية العام الدراسي، بين من انقطعت بهم السبل بسبب النزوح أو تعطّل المدارس أو تدميرها.
سوء التغذية وصحة الأطفال (اليونيسيف):
تتوقع يونيسف أن 3.2 مليون طفل دون الخامسة سيعانون من سوء تغذية حاد عام 2025، وهو من أعلى المعدلات عالمياً ويقترن بانتشار أمراض مميتة كالحصبة والكوليرا.
الأمراض والوفيات المرتبطة بالنزاع:
منظمة الصحة العالمية تقدّر أن 30.4 مليون شخص (أكثر من نصف السكان) بحاجة إلى مساعدات إنسانية عام 2025، مع 12.8 مليون نازح قسرياً، وتأكد حالة مجاعة في مناطق من شمال دارفور بينما هناك مناطق أخرى من البلاد عرضة للمجاعة.
تفشّي الكوليرا شكّل إحدى أخطر موجات الأوبئة؛ تقارير موجزة تشير إلى مئات آلاف الحالات وآلاف الوفيات في 2024–2025 داخل السودان وامتدادات في الجوار، مع تضرر ولايات الخرطوم والجزيرة وكسلا وغيرها.
الهجمات على النظام الصحي واسعة النطاق: رُصد أكثر من 150 حادثة ألحقت أضراراً جسيمة بمرافق صحية، بينها مستشفيات للنساء والأطفال و58 حالة احتلال لمرافق خلال الأسابيعال أخيرة، ما شلّ الخدمات المنقذة للحياة.
أوضاع النساء والأطفال في دول اللجوء (المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين):
إجمالًا، تخطّى عدد اللاجئين السودانيين المسجلين في دول الجوار 3.4 مليون (مصر ~1.3م، تشاد ~1.1م، جنوب السودان ~0.59م…)، وتشير البيانات الإقليمية إلى أن نحو 75% من اللاجئين نساء وأطفال، مع فجوات تمويل حادة للخدمات الأساسية.
تشاد: تدفق يما يفوق 860 ألف لاجئ سوداني حتى منتصف 2025؛ 80–88% منهم نساء وأطفال، وكثيرون يصلون مصابين أو منهكين ومع معدلات مرتفعة من سوء التغذية، ومخاطر حماية جسيمة.
مصر: الحكومة قدّرت الواصلين بأكثر من 1.2–1.5 مليون منذ بدء الحرب؛ المسجَّل لدى المفوضية يتجاوز 670 ألف سوداني حتى مارس 2025، وتشير تقارير مستقلة إلى أن نحو 75% من القادمين نساء وأطفال. ضعف التسجيل والتمويل (خطة 2025 في مصر كانت ممولة بنحو 5% فقط عند الربع الأول) ينعكس على التعليم والصحة والحماية.
جنوب السودان/إثيوبيا/إفريقيا الوسطى: نقاط عبور مكتظة وخدمات محدودة، مع ارتفاع مخاطر العنف القائم على النوع الاجتماعي والانفصال الأسري على طول الرحلة والحدود والمخيمات.
تقارير نوعية عن الشابات اللاجئات تُظهر ضغوطاً نفسية شديدة وحاجة عالية إلى الدعم النفسي – الاجتماعي، وتزايد مخاوف السلامة داخل المخيمات في شرق تشاد.
خاتمة:
لقد جاء رفض المبادرة الرباعية من طرف الحركة الإسلاموية، بعض القوى التقليدية، وأيضاً تحالف التغيير الجذري الذي يهيمن عليه الحزب الشيوعي. كل هذه الأطراف وإن اختلفت جذورها الأيديولوجية، إلا أن مواقفها تقاطعت عند رفض المبادرة بذريعة السيادة أو رفض “الوصاية الدولية”. بالطبع فإن مواقف الحركة الإسلاموية وحلفائها فى معسكر “الشمولية الوظيفية” مفهوم، إلا أن موقف الحزب الشيوعى وتحالفه يدعو للأسف من منطلق العشم فى أن يأخذ هذا الحزب العريق موقفاً يليق بتاريخه ومشروعه الوطنى. عليه، بالرغم من النقد الموجه لموقف الحزب فى هذا المقال إلا إن قراءة موقف الحزب الشيوعي وتحالفه لا ينبغي أن تكون في إطار إدانة بقدر ما هي دعوة للتأمل والمراجعة. فخطاب “رفض الوصاية” قد يبدو منسجماً مع تاريخ الحزب في الدفاع عن الاستقلالية الوطنية، لكنه في واقع اليوم، حيث الحرب تمزق البلاد والسيادة ذاتها تتآكل بسبب عسكرة السياسة والاقتصاد، يصبح من المهم أن يعاد النظر في كيفية صياغة هذا الخطاب.
إن القوى الديمقراطية بحاجة إلى كل طاقاتها، والحزب الشيوعي بما له من إرث نضالي واسع، قادر على أن يلعب دوراً محورياً إذا ما وضع أولويته في إنهاء الحرب وبناء عملية مدنية شاملة، بدلاً من التماهى مع مشروع الحركة الإسلاموية الرامى لإدامة الحرب، ما دام إنهائها سيؤدى إلى تصفية العسكرة والانتقال المدنى الديمقراطى.
ليس الهدف من هذه المراجعة نزع حق الحزب الشيوعي أو غيره في التمسك بمبادئه، بل التأكيد على أن اللحظة التاريخية تقتضي توحيد الجهود المدنية. فالقضية ليست فيمن يقود أو من يملك الشرعية وحده، وإنما في كيفية إنقاذ السودان من التفكك والانهيار. إن الاستمرار في خطاب القطيعة أو التشكيك في نوايا الآخرين يضعف مناعة القوى المدنية ويعطي معسكر الحرب فرصة أكبر لإطالة أمد الصراع.
إن المبادرة الدولية بما تحمله من فرص ومخاطر تحتاج إلى موقف موحّد من القوى المدنية الديمقراطية، يقوم على النقد الذاتي البنّاء وتجاوز المرارات القديمة. والحزب الشيوعي وتحالف التغيير الجذري أمام فرصة تاريخية ليكونوا جزءاً من هذا المشروع الوطني الجامع، عبر تقديم بدائل واقعية وبرامج عملية، بدل الاكتفاء بخطاب الرفض. فالتاريخ سيسجل ليس فقط من رفض أو أيّد، بل من ساهم في وقف الحرب وبناء السلام وصياغة مستقبل يليق بالسودانيين.
سنعرض فى المقال القادم ما يجب على القوى المدنية الديمقراطية القيام به لضمان أن تكون عملية الانتقال تعبيراً حقيقياً عن الإرادة الشعبية، بحيث تفضى، بإذن الله، إلى انتقال مدنى سلمى ديمقراطى نهضوى فى نهاية المطاف.
________________________________________________________________________________
Elbadawi, Ibrahim and Federico Fiuratti. (2024). “Sudan’s Future between Catastrophic Conflict and Peaceful Renaissance Growth Trajectories: Long-term Growth Model Simulations,” ERF Working Paper No. 1708, Economic Research Forum, Cairo, Egypt: June.
راجع ورقة عبدل محمد (المسؤول السابق في الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة الذي يتمتع بخبرة واسعة في الوساطة في القرن الأفريقي، ولا سيما في السودان وجنوب السودان، وشغل مؤخراً منصب رئيس مكتب الممثل الخاص للأمم المتحدة):
From Ceasefires to Real Peace: Reclaiming the Purpose of Peacemaking in
a Polarized World
