وزير المالية الأسبق بروفيسور إبراهيم البدوي يكتب.. “لماذا لم تتعلم النُخبة السودانية من دروس وخيبات الماضى المتكررة؟” (3)

المقال الثالث – “المتلازمة السودانية”: لماذا لم تتعلم النُخبة السودانية من دروس وخيبات الماضى المتكررة؟

بقلم: بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي ، وزير المالية والتخطيط الاقتصادى الأسبق ، المدير التنفيذي، منتدى دراسات وابحاث التنمية..

مقدمة:

للتحرر من إرث “اعتماد المسار” المأساوي من الصراعات والانقسامات وعدم الاستقرار السياسي والتخلف الاقتصادى الذي طبع مسيرة المشروع الوطني السوداني، يجب على النُخبة السودانية إجراء تقييم نقدي عميق وصادق لأدائها منذ الاستقلال، خاصة في أعقاب الثورات الشعبية الثلاث وعلى وجه أخص بعد ثورة ديسمبر المجيدة، بحسبان أن معظم القياديين والناشطين فيها مازالوا أحياء، متعهم الله بالصحة والعافية. أكثر من ذلك، ولأول مرة فى تاريخ السودان الحديث، فإن الخيارات التى ستنتهجها النخبة، المدنية والعسكرية على حدٍ سواء، ستكون لها تداعيات “وجودية” على البلاد وأهلها.

النُخبة السودانية ودورها فى صناعة “المتلازمة السياسية السودانية”:

كما أشرت فى مقالى السابق، فقد أجريت والأستاذ الزاكى الحلو تحليلاً معَمَّقاً – فى ورقتنا الموسومة “متلازمة السودان: المنافسة بين الدولة والمجتمع ومستقبل الديمقراطية بعد ثورة ديسمبر 2018” (المنشورة باللغة الانجليزية فى العام 2023)(1) – لظاهرة الحلقة المفرغة من الحكومات الديمقراطية قصيرة الأجل والانقلابات العسكرية المفضية إلى أنظمة استبدادية متطاولة، يتم إسقاطها بواسطة الانتفاضات الشعبية في نهاية المطاف، لتؤسس لحكومات ديمقراطية هشه، متشاكسة، يتم الإطاحة بها بإنقلابات جديدة وهكذا دواليك. صكينا تعبير “المتلازمة السياسية السودانية” كمفهوم وعنوان لهذه الظاهرة التى طبعت التاريخ السياسي الحديث للسودان منذ الاستقلال، تاركة البلاد عالقة في نمط من عدم الاستقرار وهشاشة الدولة. ويكمن جوهر هذه الدورة في الدور المدمر الذي لعبته النخب المدنية والعسكرية على حدٍ سواء، الأمر الذى قوَّض توطيد الديمقراطية وعزز الحكم الاستبدادي.

على الجانب المدني، انشغلت الأحزاب التاريخية التقليدية في السودان – حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي – بالمنافسة الانتخابية باعتبارها غاية في حد ذاتها، وتجاهلت محدودية ديمقراطية “وستمنستر” البرلمانية في ظل التخلف الاقتصادى وظروف التشرذم الإثنى والجهوى الذي يسود المجتمع السوداني. وبينما ضمنت قاعدتها الشعبية الواسعة انتصارات انتخابية دورية، إلا أنها أعاقت أيضاً تطور المؤسسات الديمقراطية الحديثة، حيث أصبحت السياسة تقتصر على حشد الولاءات الطائفية والجهوية بدلاً من تعزيز المنافسة البرامجية. وقد كان إغراء التنافس الانتخابى الضامن للفوز بالأغلبية الإئتلافية مستحكماً بين قيادات الحزبين التاريخين رغم خلافاتهم، الأمر الذى أعاق مشروع السيد الصادق المهدى الحداثى النهضوى الذى طرحه فى رئاسته الأولى والتى تم إطاحتها حتى قبل أن تكمل عامها الأول (27 يوليو 1966- 15 مايو 1967). لقد كان يهدف رئيس الوزراء وقتها من هذا المشروع الرائد فى ذللك الزمان الباكر من مسيرة الدولة السودانية المستقلة استيعاب التنوع المجتمعى والسعى لبناء دولة حديثة عادلة. ارتكز المشروع على محورين أساسيين: السياسة عبر المصالحة الوطنية، توسيع قاعدة الحكم، معالجة قضية الجنوب سلمياً، وبناء جيش مهني يخضع للسلطة المدنية؛ والاقتصاد عبر إرساء ما يمكن وصفه ب“الشرعية الاقتصادية” فى إطار برنامج يحظى بإجماع شعبى عريض تنفذه حكومة قومية، تشمل النقابات والأحزاب الحديثة. إلا أن الزعيم الشاب ومشروعه قد شكلا تهديداً جدياً لقوى متعددة في إطار الأحزاب والكيانات التاريخية، بما فى ذلك حزبه، وكذلك اليسار السودانى الذى كان يرى أن برنامج الصادق المهدى بمثابة محاولة لتبنى مشروعه وسحب البساط من تحت أرجله(2).

بالمقابل، فقد استحوذت نخبة الأحزاب الأيديولوجية مثل الشيوعيين والإسلامويين، ولاحقاً البعثيين، على نفوذٍ كبيرٍ داخل الجامعات والنقابات العمالية والجمعيات المهنية. ومع ذلك، غالباً ما نظرت هذه الكيانات، التي تفتقر إلى دعم جماهيري واسع، إلى الديمقراطية الليبرالية على أنها عقبة أمام طموحاتها، حيث غلُب عليهم شعور استنكارى لواقع الهيمنة الشعبية للأحزاب التقليدية والذى وصفه بروفيسور عبد الله على ابراهيم بـ “الحسد الانتخابى”. عليه، فقد عمدت هذه النُخبة إلى تبخيس مبدأ الاقتراع العام باعتباره ”ديمقراطية طائفية“ ودعوا بدلاً من ذلك إلى بدائل تكنوقراطية أو استبدادية. أدى نزع الشرعية عن الديمقراطية الانتخابية من قبل نُخب القوى الحديثة إلى نزوعهم لإقحام الجيش فى السياسة، بل وتقديم الدعم وحتى المشاركة فى الانقلابات العسكرية المتكررة(3).

بدورها، وضعت النٌخبة العسكرية نفسها في موقع المحَكِّم النهائي في السياسة السودانية. منذ انقلاب الجنرال عبود في عام 1958، مروراً بالنميري في عام 1969، وصولاً إلى استيلاء البشير المدعوم من “الإسلامويين” على السلطة في عام 1989، ادعى الجيش مراراً وتكراراً أنه يتدخل لـ”إنقاذ” الأمة من الشلل السياسي، ليقوم في النهاية بمأسسة الاستبداد. وحتى بعد أن أطاحت الانتفاضات الشعبية بالأنظمة الاستبدادية في أعوام 1964 و1985 و2018، حافظ الجيش على هيمنته، إما من خلال تشكيل ترتيبات انتقالية لصالحه أو استعادة السلطة بشكل مباشر، كما فعل في انقلاب أكتوبر 2021. وهكذا، تواطأت النخب المدنية والعسكرية – أحياناً كخصوم وأحياناً كشركاء – مما أبقى الانتقالات الديمقراطية هشة وقابلة للإجهاض.

بلغت هذه الديناميكية أشد أشكالها عدوانية في ظل نظام الإنقاذ (1989-2019). فقد أتقنت النخبة الإسلاموية، أولاً في عهد الدكتور حسن الترابي، رحمه الله، ثم في عهد عمر البشير لاحقاً، فن “إستيطان” المؤسسات القومية، المدنية والعسكرية على حدٍ سواء، بواسطة منسوبى “الحركة الإسلاموية” المسيطرة على النظام. فمن خلال مبدأ “التمكين” (الذي أعطى مفهوماً جيداً في الأصل سمعة سيئة)، أطلقوا حملة واسعة النطاق لتسريح الكفاءات الوطنية فى الخدمة المدنية والقضاء والجيش والجامعات ووسائل الإعلام واستبدالها بموالين للحركة وحزبها الحاكم. وهكذا تمت خصخصة المؤسسات الوطنية وتقليصها إلى أدوات للحفاظ على النظام وتمكين عناصر التنظيم فى مفاصل الدولة – فى معظم الأحيان من دون أدنى اعتبار لمؤهل أو كفاءة.

يمكن فهم منطق التمكين بشكل أفضل من خلال أطروحة بروفيسور أليكس دي وال: “السوق السياسي”(4). فقد حوّل نظام الإنقاذ السودان إلى مسرح لنظام معاملاتي (transactional) قائم على المحسوبية مقابل الريع، حيث تم شراء الولاء السياسى و”تسليعه” كذلك. ففى هذا السياق تم توجيه عائدات النفط في التسعينيات والألفينيات إلى شبكة واسعة من المحسوبية، مما ساعد على توطيد الحكم الاستبدادي، حيث وُزعت العقود والمناصب والريع الاقتصادي على حلفاء النظام، بينما تم استخدام الوصول إلى موارد الدولة كسلاح ضد المعارضين. أدى هذا الاندماج بين الأيديولوجية الإسلاموية وديناميات السوق السياسية إلى ترسيخ نظام مزدوج من الإستبداد والفساد (أو مايسمى فى أدبيات علم السياسة والاقتصاد السياسى بالنظام ال”كليبتوقراطى”). من خلال دمج التمكين مع آلية “السوق السياسي”، لم تقم النخبة الإسلاموية بترسيخ الاستبداد فحسب، بل قوضت الدولة أيضاً. فقد أصبحت المؤسسات – التي كان من المفترض أن تؤمن “المصالح/السلع العامة” (public goods) للشعب – أدوات حزبية للاقصاء والافقار والقمع. للأسف تم إعادة إنتاج هذا الإرث من الانحطاط المؤسسي بعد انقلاب الخامس والعشرون من أكتوبر وحرب الخامس عشر من أبريل فى سياق هيمنة مليشياوية عسكرية على موارد ومقدرات البلاد.

النخبة السودانية وإدمان الفشل:

تساءل المفكر السودانى الراحل الدكتور منصور خالد، رحمه الله، فى كتابه المشهور النخبة السودانية وإدمان الفشل، عن لماذ مردت النخبة السودانية “على إدمان الفشل”؟(5)، حيث قدم نقداً جذرياً للنخبة السياسية والثقافية ودورها في تدهور السودان عبر مراحله المختلفة، جامعاً بين منظور السياسة وعلم الاجتماع والتأريخ. اجتماعياً، يرى أن أزمة السودان أزمة رؤية قبل أن تكون أزمة حكم؛ إذ قادت الاختلالات الفكرية إلى تصدّع في الذات الوطنية، تتجلى في ما يسميه “النفاق الفكري” في القضايا الماسّة بالوجدان العام كالدين، وفي انتهازيةٍ تشوب مواقف النخب من المسائل المبدئية. كما يَعدّ أزمة الهوية الجذر الأعمق لكثير من المشكلات، وأن تجاهل النخب للطبيعة الفسيفسائية للمجتمع أفضى حتماً إلى أزمات كبرى. سياسياً، يوثّق الكتاب تخبُّط السياسات بين يمين ويسار، حيث تسعى كل نخبة لفرض أيديولوجيتها، وغالباً ما كان الجيش هو الأداة الأسرع لتحقيق ذلك. وعلى الرغم من سعة مباحثه السياسية، يركز المؤلف على ثلاث قضايا حاسمة: الوحدة والسلام والتنمية، مؤكداً أنه لا نهوض ممكناً ما لم تُعالَج هذه الملفات مجتمعة. تاريخياً، يعرض بالتفصيل لدورات الحكم المتعاقبة، ويتوقف طويلاً عند عهد نميري وعند فترة حكم الجبهة الإسلاموية ذات الطابع العسكري. ويخلص الكتاب إلى أن تاريخ السودان يدور في حلقة مكرورة: ينتفض الشعب، فتفرغ النخب و العسكر الزخم الثورى من محتواه، لتبدأ سلسلة الانقلابات والتصفيات والثورات المضادة؛ أحزابٌ تتنازع السلطة لا بدافع الإعمار والارتقاء، بل بدافع فرض أيديولوجيا بعينها، فتتعطّل الدولة وتُستأنف الدورة من جديد. (توصيف يتطابق تماماً مع ما أسميناه ب”المتلازمة السياسية”).

أزمة ندرة “الديمقراطيين” وغياب “الإستنارة”:

كانت مسألة هشاشة الديمقراطية السودانية الناشئة وعدم قدرتها على الصمود فى وجه الصدمات والإنقلابات مصدر قلق كبير لبعض المفكرين والسياسيين السودانيين. فعلى سبيل المثال يرى الأستاذ الراحل عبد العزيز حسين الصاوي الكاتب والمفكر البارز في حركة البعث القومي العربي، رحمه الله، أن مأزق السودان الديمقراطي ليس نتاج ضعف التجارب الانتخابية وحدها، بل يرتبط بجذر أعمق هو غياب الرصيد التنويري والاستناري الذي يغذي الديمقراطية. فـ”لا ديمقراطية بلا ديمقراطيين، ولا ديمقراطيين بلا استناريين”(6). فقد نوه إلى الديمقراطية الأوربية التى انبثقت من عصر النهضة والتنوير وما صاحبه من تطور علمي وفكري، بينما افتقر السودان إلى شروط مشابهة، ما جعل نجاح مشروعه الديمقراطي رهيناً باستدامة الحرية والتجربة الديمقراطية نفسها كي تُنضج الفكر التنويري. فهو يرى فى هذا السياق أن الأحزاب السياسية السودانية هي السبب الرئيس للمشكلة، سواء الأحزاب التقليدية الشعبية أو الأحزاب الحديثة على حد سواء. برأيه، “لم تكن الأحزاب الكبيرة انتخابياً (الأمة، والاتحادي الديمقراطي) بيئة مناسبة لنضوج المخزون النهضوي التنويري بدرجات متفاوتة بسبب غلبة الثقل الطائفي في تكوينها، بينما كانت الأحزاب الكبيرة “نوعياً” الأكثر تمثيلاً للقوى الحديثة (الماركسية – الشيوعية، والدينية – الإسلامية، ولاحقاً القومية البعثية العربية) غير متوافقة أيديولوجياً مع النظام الديمقراطي الليبرالي” (الصاوي، 2012: ص 12).

ورغم أنه ينسب الفضل للأحزاب “الطائفية” الشعبية في تسييس الولاءات الطائفية إلى سياسة حزبية، من حيث أنها ساعدت في إخراج السياسة من القبلية والجهوية إلى ما هو أبعد من القبلية والجهوية، وللأحزاب الحديثة في تشكيل نافذة السودان الأوسع للتفاعل مع تيارات وحركات التغيير في العالم ولعب الدور الرئيسي في زعزعة البيئة الاجتماعية والثقافية المتخلفة وإيقاظ الطبقات الشعبية بحقوقها. ومع ذلك، فإن الاستنتاج الأساسي في منظور الصاوي يضع اللوم مباشرة على الطبقة السياسية السودانية (ص 12): “… هذان النمطان، كل لأسبابه الخاصة، شكلا العقبة الكبرى في طريق تأصيل الديمقراطية كوعي عام وممارسة تطبيقية، وبالتالي سدّا شريان الحياة أمام التنوير والنهضة”.

وهكذا، برأيه، لم تُنتج النخب السودانية قاعدة اجتماعية واسعة للديمقراطية بل ساهمت في إضعافها. ومع استمرار الانقلابات العسكرية (1958، 1969، 1989) وتعاقب الأنظمة الشمولية، جرى استنزاف ما تبقى من الرصيد الديمقراطي والاستناري. ويشير الصاوي إلى أن انقلاب مايو ثم نظام الإنقاذ جسّدا ذروة هذا التراجع، من خلال قمع الحريات وتديين التعليم والمجال العام، وتجفيف منابع التفكير النقدي. بذلك تحوّل المجتمع إلى بيئة قابلة للاستجابة للخطاب الديني الطقوسي والسلطوي، فيما انحسرت القابلية لخطاب الديمقراطية. والنتيجة أن المعارضة، رغم نضالاتها وتضحياتها، وجدت نفسها ضعيفة لأن قاعدتها الاجتماعية تآكلت وتراجعت.

الحل عند الصاوي يبدأ من إعادة إحياء مشروع الاستنارة، عبر إصلاح التعليم والمجتمع المدني كركيزتين لأي تحول ديمقراطي حقيقي. فبغير استنارة لن يتكوّن ديمقراطيون، ومن دون ديمقراطيين ستظل الديمقراطية في السودان محض تجربة هشة سرعان ما تنقضها الانقلابات والشموليات.

ويتفق عبد الله علي إبراهيم (2021) مع الصاوي في أن ضعف “القاعدة الاجتماعية” للديمقراطية الليبرالية هو السبب الأساسي وراء هشاشة الديمقراطية السودانية. ومع ذلك، فهو يرى أن النخب السودانية ، التي تتجنب السياسة الانتخابية، يجب أن تتحمل المسؤولية الرئيسية. فقد اتهمهم بأنهم “جماعة ذات وجهين حول الديمقراطية”. فالديمقراطية هي النظام المثالي للجماعة كطبقة حضرية حديثة. ولكن، بذات الوقت، هو النظام الذي لا يحقق لها نجاحاً يُذكر في العملية الانتخابية؛ ومن ثم، فقد انقلبوا على النظام برمته من خلال تدبير الانقلابات.

فجوة الفعل الثقافى:

في مقاله “الفعل الثقافي والأحزاب السياسية”(7)، يقدم الأستاذ عالم عباس رؤية نقدية للأحزاب السودانية من منظور ثقافي. فهو يرى أن الأزمة الحقيقية لا تكمن فقط في الأداء السياسي لهذه الأحزاب، بل في غياب خطاب ثقافي أصيل يعكس التنوع الهائل في المجتمع السوداني ويعترف به. فى هذا السياق يشير الكاتب إلى أن السودان بلد متعدد الأعراق واللغات والثقافات، وأن أي حزب يسعى لقيادة هذا الشعب كان ينبغي أن يصوغ خطاباً ثقافياً قادراً على إدارة هذا التنوع بروح الاعتراف والمساواة والاحترام المتبادل. غير أن معظم الأحزاب، برأيه، عجزت عن ذلك، إذ انشغلت بالمنافسة على السلطة كغنيمة، وتشرذمت بفعل الانشقاقات والتحالفات المؤقتة، أو تحولت إلى أدوات في يد السلطة الحاكمة. فبالنسبة له حتى الأحزاب ذات الإرث التاريخي والفكري (كالأمة، الاتحادي، الشيوعي، الجمهوري) لم تطور خطاباً ثقافياً متماسكاً يترجم إلى سياسات وبرامج عملية لإدارة التنوع. وغلب على خطابها طابع “الينبغيات” والشعارات، دون تحويلها إلى فعل ثقافي ملموس. أما حزب المؤتمر الوطني فقد استثمر الثقافة بطريقة معاكسة، عبر مشروع “صياغة الإنسان السوداني” الذي انتهى إلى نتائج كارثية على الوحدة الوطنية.

يخلص أستاذ عالم إلى أن الفجوة الواسعة بين الأحزاب والفعل الثقافي جعلت الشباب، الذين فجروا ثورة ديسمبر 2019، يتجاوزون هذه الأحزاب ويبحثون عن بدائل جديدة. ويرى أن بقاء الأحزاب واستمرارها يتوقف على مراجعة شاملة لخطابها الثقافي، وتجديده ليواكب تطلعات الشعب، وإلا فإنها ستنهار أمام وعي الأجيال الجديدة وتطلعاتها.

خاتمة:

تكشف قراءة تاريخ السودان السياسي أن النخب، مدنية كانت أم عسكرية، قد أسهمت بصورة مباشرة في إعادة إنتاج ما أسميناه بـ “المتلازمة السودانية. لقد كان غياب الرؤية الاستنارية وضعف الالتزام بالديمقراطية، إضافة إلى نزوع الأحزاب للتنافس الطائفي أو الأيديولوجي، وراء إجهاض فرص بناء دولة حديثة عادلة، خاصة مشروع السيد الصادق المهدى الحداثى النهضوى الذى طرحه فى ستينيات القرن الماضى بعد ثورة أكتوبر.

ومع استحواذ “الإسلامويين” في عهد الإنقاذ على مؤسسات الدولة عبر التمكين وتحويلها إلى سوق سياسي للريع والمحسوبية، بلغ الانحطاط المؤسسي ذروته. إن الدرس الأبرز هو أن السودان لن يخرج من هذه الحلقة المفرغة إلا عبر نقد ذاتي صادق من قِبَل النخب وتجديد عميق في الثقافة السياسية، يضع أسساً لديمقراطية راسخة تقوم على الاستنارة والعدالة وتستجيب لتطلعات الشعب.

 

Elbadawi, Ibrahim and Alzaki Alhelo. (2023). “The Sudan Syndrome: State-Society Contests and the Future of Democracy After the December 2018 Revolution,” ERF Working Paper No. 1644, Economic Research Forum, Cairo, Egypt: August.

رباح الصادق (2019). الإمام الصادق المهدى: سيرة ومسيرة – بينج ما ريال. الجزء الأول، النسخة الثانية، صالون الإبداع للتنمية والثقافة.

يرى بعض المؤرخين أن الأمين العام لحزب الأمة ورئيس وزرائه السيد/عبد الله خليل هو أول من أدخل الجيش إلى ساحة السياسة السودانية فى العام 1958 عندما حث قائد الجيش الفريق ابراهيم عبود لإستلام السلطة بصورة مؤقته حتى تتمكن احزاب الإئتلاف من ترتبب أوضاعها. إلا أن حزب الأمة قد نفى تفويض رئيس وزرائه بهذا الشأن وأشار إلى نه لم يدعم ذلك النظام العسكرى، بل قد كان من أكبر معارضيه حتى إسقاطه فى ثورة أكتوبر 1964.

ووفقاً لبروفيسور أليكس دي وال، الباحث والخبير فى شئون القرن الأفريقى، فإن “السوق السياسي” هو “نظام حكم يدار على أساس المعاملات الشخصية التي يتم فيها تبادل الخدمات السياسية والولاءات مقابل مكافأة مادية بطريقة تنافسية. يساوم الحاكم أعضاء النخبة السياسية على المبلغ الذي يحتاج إلى دفعه – نقداً أو من خلال الحصول على موارد مربحة أخرى مثل العقود – مقابل دعمهم له. وهم يمارسون الضغط عليه باستخدام قدرتهم على تعبئة الأصوات، أو حشد الجماهير، أو ممارسة العنف الضار” : https://worldpeacefoundation.org/wp-content/uploads/2024/03/Sudan-A-political-market-place-analysis-final-20190731.pdf

الدكتور منصور خالد.1993. النخبة السودانية وإدمان الفشل. دار الامين للطباعة والنشر والتوزيع

الأستاذ عبد العزيز حسين الصاوى. 2012. “معاً نحو عصر تنوير سوداني”، دار عزة للنشر والتوزيع، الخرطوم: https://sudaneseonline.com/board/310/msg/1285861907.html

الأستاذ عالم عباس.2021. “الفعل الثقافى والأحزاب السودانية”، 2021.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.