وزير المالية الأسبق بروفيسور إبراهيم البدوي يكتب.. المتلازمة السودانية” ونظرية “الممر الضيق”(1)

المقال الثانى – “المتلازمة السودانية” ونظرية “الممر الضيق”(1)

بقلم: بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي ،وزير المالية والتخطيط الاقتصادى الأسبق ، المدير التنفيذي، منتدى دراسات وابحاث التنمية

مقدمة:

أشرنا فى المقال السابق إلى العوامل الهيكلية المجتمعية والتاريخية الماثلة عند مرحلة تأسيس الدولة السودانية المستقلة (التركيبة المجتمعية المتسمة بالانقاسم العمودى على أسس دينية وثقافية بين شمال البلاد وجنوبها والتنوع الإثنى والجهوى فى كل البلاد بشكل عام)، وما استصحب هذه الحالة من اسنقطاب سياسى وخيارات استراتيجية خاطئة، مثل عدم الوفاء بالعهد الفيدرالى لنُخبة الجنوب، وأوضحنا كيف ساهمت هذه العوامل الهيكلية مجتمعة فى وقوع البلاد فريسة لما أسميته والأستاذ الزاكى الحلو “المتلازمة السودانية” فى ورقتنا الموسومة “متلازمة السودان: الصراعات بين الدولة والمجتمع ومستقبل الديمقراطية بعد ثورة ديسمبر 2018” (المنشورة باللغة الانجليزية فى العام 2023)(1). فقد تمثلت هذه المتلازمة، التى إحتنكت البلاد ولا زالت منذ ما يقرب من سبعين عاماً، تمثلت فى تواتر حلقة عدمية، مفرغة من “الديمقراطيات الهشة قصيرة العمر، والانقلابات العسكرية المفضية إلى أنظمة استبدادية متطاولة، تُطاح بها فى نهاية المطاف انتفاضات شعبية عارمة، ممهدة الطريق لانتخابات حرة وحكومات ديمقراطية ضعيفة، سرعان ما تصبح هى الأخرى فريسة سهلة لانقلابات جديدة، وهكذا دواليك”.

أولاً، لماذا العوامل الهيكلية وحدها لا تكفى لمقاربة إشكالية “المتلازمة السودانية”؟:

بالرغم من أهمية هذه العوامل الهيكلية وتعاظم تأثيرها التراكمى عبر ما يسمى بظاهرة “الإعتماد على المسار” لفهم منشأ هذه المتلازمة وكيفية الإنعتاق والتحرر منها، إلا أننا قد جادلنا فى ورقتنا الآنفة الذكر بأن هناك أسئلة هامة لا تستطيع مقاربة العوامل الهيكلية وحدها الإجابة عليها، مثلاً:

لماذا يتغلب المجتمع السودانى وشبابه على التشرذم المجتمعى والاستقطاب السياسى الحاد وفى لحظات فارقة يأتى بثورة شعبية عارمة تسقط أنظمة شمولية متطاولة وباطشة؟

وليس هناك أبلغ من وصف الشاعر السودانى الكبير الأستاذ عالم عباس لتلك اللُحمة الوطنية، العابرة للجهويات والإثنيات وحتى الإنتماءات السياسية، التى انتظمت شباب ثورة ديسمبر فى ساحة الإعتصام أمام القيادة العامة للجيش السودانى بالخرطوم:

” وإذا كان من تذكير، فإن ملحمة الاعتصام وكل ما صاحبها من عبقرية، في التلاحم والتعبير والتنوع والتساكن والتلاقي والشعارات وكل ما يعكس صورة السودان في تنوعه الخلّاق وثقافاته المتعددة، ومعتقداته، ولغاه، في لوحة بصرية صوتية ملحمية، وتعاضد إنساني نبيل، من قيم وأخلاق ومبادئ، ومن تعاطف وتآزر وإيثار، وكأن الجميع اكتشف فجأة أين يجب أن تتجه سهام غضبه، وأي الصديق من العدو. كان ذلك المشهد، رغم مأساوية فضه، رسالة لإنذار مبكر لكل المواعين السياسية البالية، أن على السياسة والساسة أن يهرعوا ويبادروا في تجديد أنفسهم ومواعينهم، عبر روافع الثقافة وتجديد الخطاب السياسي ليرتكز على مكونها الأساس، ثقافة الشعب السوداني المتنوع المعبر المستوعب المساكن لبعضه البعض في أوركسترا، شبيهة بساحة الاعتصام، وإلا فلا الشعب ولا الوقت ولا العصر، ولا التجارب ستسمح، مرة أخرى، بتكرار الإخفاقات السابقة، ولا جيل هذه الثورة العبقرية بالذي سيرهن مصيره بالفكر الديناصوري الذي أدى إلى انهيار مؤسسة الدولة لمراتٍ ثلاث.” (2).

لماذا انفرط عقد هذا الإجماع الوطنى العظيم بعد نجاح الثورة فى إسقاط النظام الشمولى؟

فقد دب الخلاف والتنافر فى معسكر الثورات ابتداءً من الفترة الانتقالية، لتنتج حكومات ديمقراطية هشة يتفرق عرابوها أيدى سبأ عند سماع البيان الانقلابى، بل وفى حالة ثورة ديسمبر المجيدة يتم إجهاض المشروع المدنى الديمقراطى حتى قبل إكتمال فترته الإنتقالية التأسيسة. وهكذا يظل السؤال حائراً، كما أنشد الشاعر والكاتب المسرحى المصرى الراحل، الأستاذ صلاح عبد الصبور فى قصيدته “أحلام الفارس القديم” – وإن كان شعره ذلك بشأن مقام آخر وزمان سابق:

“ماذا جرى للفارس الهمام؟/ انخلع القلبُ، وولَّى هارباً بلا زِمام/ وانكسرت قوادمُ الأحلام/ يا من يدلُّ خطوتي على طريقِ الدمعةِ البريئة! يا من يدلُّ خطوتي على طريقِ الضحكةِ البريئة! لكَ السلام/ لكَ السلام/ أعطيكَ ما أعطتني الدنيا من التجريب والمهارة/ لقاءَ يومٍ واحدٍ من البكارة/ لا، ليس غيرَ أنتِ من يُعيدُني للفارسِ القديم..”

وأخيراً، لماذا لم تتعلم النُخبة السودانية من دروس وعبر هذه المتلازمة وخيباتها الوطنية المتكررة؟

أو كما تساءل المفكر السودانى الراحل الدكتور منصور خالد، رحمه الله، فى كتابه المشهور النخبة السودانية وإدمان الفشل، لماذ مردت النخبة السودانية “على إدمان الفشل”(3). رغم أن الكتاب على أهميته البالغة لحوارات أزمة المشروع الوطنى السودانى، قد ركَّز أيضاً على العوامل الهيكلية دون تقديم اجابة مقنعة عن السؤال الذى انتهى إليه: هل ستنتهي هذة الدائرة؟ (سنعرض لكتاب دكتور منصور خالد ومساهمات مفكرين سودانيين آخرين بهذا الشأن فى مقالنا القادم).

ثانياً، نظرية “الممر الضيق”:

جادلت وأستاذ الحلو فى ورقتنا الآنفة الذكر بأن قولبة هذه العوامل الهيكلية المتنوعة في إطار ديناميكي متماسك لشرح متلازمة السودان يتطلب إطاراً تحليلياً شاملاً، كما فى نموذج بناء الدولة في إطار “الممر الضيق”، لبروفيسور دارون أسيموغلو (أستاذ الاقتصاد بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) وبروفيسور جيمس روبنسون (أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو). طرح الكاتبان فى كتابهما “الممر الضيق: الدول والمجتمعات ومصير الحرية”( The Narrow Corridor: States, Societies, and the Fate of Liberty) (4) الصادر فى العام 2019، طرحا هذه النظرية بعد كتابهما المشهور (والذى تُرجم للغة العربية) ” لماذا تفشل الأمم: أصول السلطة والإزدهار والفقر”(5). الجدير بالذكر أن دارون أسيموغلو وجيمس روبنسون وزميلهم سايمون جونسون (أستاذ الاقتصاد بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) قد حصلوا على جائزة نوبل فى الاقتصاد للعام 2024، حيث أفادت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم فى تصريح صحفى (أكتوبر 2024)، بأنها “قررت منح جائزة في العلوم الاقتصادية تخليداً لذكرى ألفريد نوبل لعام 2024 إلى دارون أسيموغلو، سيمون جونسون وجيمس روبنسون، الذين أظهروا أهمية المؤسسات الاجتماعية في ازدهار البلدان. فالمجتمعات التي تعاني من ضعف سيادة القانون والمؤسسات التي تستغل السكان لا تحقق النمو أو التغيير نحو الأفضل. وتساعدنا أبحاث الفائزين على فهم الأسباب وراء ذلك”.

قدم أسيموغلو وروبنسون نهجاً تحليلياً بديهياً ومتماسكاً أسقطناه فى ورقتنا على حالة السودان لمحاولة تفسير “المتلازمة السودانية”. فوفقاً لهذه النظرية، يتطلب بناء الدولة المستقرة توازناً نسبياً بين قوة المجتمع وقوة النخب المسيطرة على الدولة. في هذه الحالة، تدخل الدولة والمجتمع في “ممر ضيق”، حيث يمارس كل منهما ضغوطاً متبادلة على الطرف الآخر لضمان أن تؤمن النخب المصالح (أو السلع) العامة (public goods) – الأمن والدفاع، المؤسسات المتينة، البنيات التحتية، الخدمات الاجتماعية …إلخ. – المطلوبة لبناء الدولة، وأن يسمح المجتمع للدولة باكتساب القوة اللازمة لذلك. وبالتالي، تشكّل هذه النظرية خروجاً مهماً عن معظم الأدبيات المتداولة، والتي تجادل بأن الدولة القوية يجب أن تأتي أولاً لتحديث الاقتصاد، الأمر الذي من شأنه أن يسهّل في نهاية المطاف الانتقال إلى ديمقراطية مستقرة ونظام حكم شامل (على سبيل المثال، فوكوياما، 2011(6)؛هنتنغتون، 1968(7)).

تحديداً، يشير الباحثان إلى أن التنافس المحموم الذى ينتظم العلاقة بين المجتمع والنخب المسيطرة على الدولة ينتج عنه أربع أنواع من الدول:

الدولة المستبدة المقتدرة: أو ما يرمز له ب (Strong, Despotic Leviathan)(8) عندما تنتج هيمنة النخب حزباً برامجياً قوياً لكنه مستبداً، مثل الحزب الشيوعي الصيني، فإن النظام السياسي ممكن أن يحدث تحولات تنموية كبرى، لكن بحسب تحليلهم سيصطدم في نهاية المطاف بعقبة بسبب عدم وجود مساءلة ومنافسة من المجتمع الأضعف. (هنا لابد من الإشارة إلى أن الحزب الشيوعى الصينى قد استطاع بناء نظام للمساءلة والضبط والتوازن فى إطار مؤسساته الحزبية، الأمر الذى قد يمكنه من الإستمرار فى الإنجاز لمدى أطول بكثير مما تنبأت به نظرية “الممر الضيق”).

الدولة المستبدة الضعيفة: قد تكون الدولة المستبدة في الواقع دولة ضعيفة جداً، لا تملك القدرة أو الرغبة في جمع الضرائب وتأمين المصالح/السلع العامة، بل قد تفشل في أداء مهمة الدولة الأساسية المتمثلة في ممارسة إحتكار العنف المنظم، على الرغم من أنها قد تكون وحشية وقمعية بنفس القدر الذي قد تكون عليه الدولة المستبدة المقتدرة. ويشيرون إلى مثل هذه الدولة بـ”الليفياثان الورقي”(Paper Leviathan) ، والذي عادةً ما يوجد في المجتمعات التي تعاني من الحروب الأهلية والانقلابات وغيرها من أشكال الصراع الأهلي، كما فى حالة نظام “الإنقاذ” البائد.

الدولة الغائبة: أما في الطرف الآخر، حيث يكون المجتمع قوياً جداً ولكن منقسماً، مثلاً على أسس هوياتية أو أيدولوجية، إلى حد لا يسمح بظهور دولة مركزية قوية، فلدينا حالة الدولة الضعيفة الغائبة ” أو “الليفياثان الغائب” (Absent Leviathan) ، كما في حالتي لبنان والصومال اللتان تسود مجتمعاتهما الانقسامات السياسية المذهبية فى الأولى والإثنية فى حالة الثانية.

الدولة القوية “المكبَّلة”: أما النوع الرابع من الدول في نموذجهم فيوجد في “الممر الضيق” بين سلطة الدولة المفرطة وسلطة المجتمع. ويزعمان أن “توازن القوى” بين الدولة والمجتمع هو محفِّز قوي لغرس الثقة المتبادلة والمنافسة البناءة بين الدولة والمجتمع، حيث تزداد قوة كل منهما كلما تقدمتا في الممر الضيق صعوداً إلى أعلى. ومن وجهة نظرهم، فإن هذا التأثير “يدعم ظهور الدول القوية”، وهو ما يشيرون إليه بـ “ا الليفياثان المكبَّل” .(Shackled Leviathan) كما يشددان على أن الدولة “مكبلة” في المقام الأول بسبب قوة المجتمع، وليس بسبب دستور عبقري أو تصميمات مؤسسية ذكية.

 

ثالثاً، تفسير “المتلازمة السودانية”:

تستند نظرية “الممر الضيق” على نموذج رياضىِ معقد من أدبيات “نظرية اللعبة: Game Theory”، إلا أن التمثيل البيانى سيكون كافياً لتوضيح علاقة هذه النظرية بالمتلازمة السودانية، من حيث توضيح كيفية بناء الدول الأربعة وديناميكيات التحولات المرتبطة بها. دعنا نفترض أن فضاء التنافس بين المجتمع والنخبة المسيطرة على الدولة يتكون من بعدين . يمثل المحور الأفقي سلطة المجتمع، بينما يرمز المحور الرأسي إلى سلطة الدولة. يتتبع الممر الضيق وتر المربع الذي يشكله المحوران. داخل الممر تأخذ الديناميكيات كلاً من الدولة والمجتمع إلى الأعلى نحو ” الليفياثان المكبَّل”، حيث تتراكم الثقة والقوة المتبادلة بين المجتمع والدولة. وفي المقابل، خارج الممر، يتجه النظام السياسي نحو ” الليفياثان المستبد” أو ” الليفياثان الغائب”. والنقطة الأساسية التي يجب ملاحظتها هي أن هذا التمثيل البياني البسيط يفسر فكرة أن الدولة المستبدة ستكون دائماً أضعف من الدولة المكبَّلة، لأن النخب في ظل الأولى ليس لها مصلحة في أن تكون أفضل حالما تحقق هيمنتها على المجتمع. ومن ناحية أخرى، تظل الدولة أضعف بكثير عندما يكون المجتمع قوياً ولكن منقسماً، حيث يكون رأس المال الاجتماعي “التجسيرى” بين مكونات المجتمع (bonding social capital) منخفضاً.

بتطبيق نموذج أسيموغلو-روبنسون على حالة السودان، نجادل بأن الانتفاضات الشعبية الثلاث تمكنت فى البداية من مواءمة قوة المجتمع مع قوة النخب العسكرية والمدنية الشمولية الحاكمة وفرضت الدخول في الممر الضيق. إلا أن الانتفاضتين الأوليتين لم تنجحا سوى في إنتاج ديمقراطيات هشة، قصيرة العمر نسبياً، بينما تم وأد ثورة ديسمبر وهى ما زالت فى مرحلة الحكومة الانتقالية. فكما أشارت التجارب التاريخية التى استعرضها الباحثان، فإن الدخول إلى “الممر الضيق” فوضوي ومحفوف بالصراعات بين المصالح المتضاربة للجماعات المتصارعة (داخل المجتمع وداخل النخب وبين المجتمع والنخب). وعليه، أفادت هذه التجارب بأن عدداً محدوداً فقط من هذه التحولات كان قادراً على البقاء داخل الممر والتقدم نحو الأعلى، حيث يكتسب كل من المجتمع والدولة مناعة في لعبة القوة الكسبية المتبادلة. من أهم الرؤى التاريخية المستقاة من نموذج “الممر الضيق” ذات الأهمية بالنسبة بالسودان هو أنه على الرغم من ضعف الدولة أو المجتمع، فإن الدخول إلى الممر ممكن، ولو في أضيق نطاق، طالما أن قوتهما متوازنة إلى حد ما. ومن الملائم في هذا السياق الاقتباس من تحليل الباحثان لحالة النظام السياسي في الولايات المتحدة في عام 1788 (أسيموغلو وروبنسون، 2020):

“… عزز الدستور الدولة ضد المجتمع. وقوّت وثيقة الحقوق المجتمع ضد الدولة. كانت الدولة لا تزال ضعيفة جدًا. لم تكن هناك ضريبة على الدخل حتى القرن العشرين، وكان الدستور يحتفظ للولايات الفردية بأي سلطة غير مخصصة للدولة الفيدرالية على وجه التحديد. ولكنه كان أيضًا مجتمعًا ضعيفًا جدًا؛ فقد كانت لا تزال هناك عبودية وكانت النساء أيضًا مواطنات من الدرجة الثانية في نواحٍ كثيرة. لكن الأمر الأساسي أنه كان هناك توازناً بين سلطة الدولة وسلطة المجتمع. كانت الولايات المتحدة في الممر.”

يتضح من تحليل العوامل الهيكلية المختلفة التي شكلت مسار بناء الدولة في السودان (مثل الحروب الأهلية والاستقطاب الاجتماعي ولعنة الموارد والأزمات الاقتصادية المتكررة) أن المجتمع والدولة كانا ضعيفين في السودان. وبالتالي، يمكن القول إن الانتفاضات السودانية الثلاث انبثقت من موقع نظام حكم مستبد ورقى – ” الليفياثان الورقي”، مما عزز قوة المجتمع على طول المحور الأفقي؛ وبالتالي أحدثت إعادة ترتيب كبيرة للقوة النسبية بين الدولة والمجتمع. عليه، فقد أفرزت الانتفاضات الثلاث توازناً بين متنافسين ضعيفين في الأساس، مما أدى إلى الدخول في أضيق جزء من الممر، مما جعل مهمة البقاء فيه فى غاية الصعوبة. تحديداً، يرتبط الفشل في البقاء في الممر وإحراز تقدم فيه دائماً بثلاثة عوامل رئيسية:

الاستقطاب الهائل داخل المجتمع

عدم وجود مؤسسات ذات مصداقية كمُحكِّم لحل النزاعات

الأزمات الاقتصادية والسياسية الكبرى

كل هذه العوامل، من بين عوامل أخرى، كانت حاضرة في عمليات الانتقال السياسي التى شهدها السودان عقب الثورات الثلاث، وهو ما يوفر دروساً مهمة لما يجب القيام به من أجل نجاح أى عملية انتقالية مستقبلية بعد أن تضع هذه الحرب أوزارها، بإذن الله، عاجلاً وليس آجلاً.

نعالج فى المقال القادم نقد النخبة السودانية من منظور بعض المفكرين السودانيين ونستعرض آفاق اعادة التوازن مع النخبة الحربية التى تسيطر الآن على الدولة وكيفية الاستجابة لتحدى العوامل الرئيسة الثلاثةأعلاه التى تعيق البقاء فى داخل ممر اسيموغلو-روبنسون والمضى قدماً فى عملية التنافس الكسبى المتبادل بين النخبة والمجتمع وصولاً إلى الدولة البرامجية القوية “المكبَّلة” يقوة المجتمع.

خاتمة:

حاولت فى هذا المقال تأطير ظاهرة “المتلازمة السودانية” بوصفها دورةً تتعاقب فيها ديمقراطيات هشّة قصيرة العمر، فانقلابات تُفضي إلى أنظمة استبدادية مطوَّلة، ثم انتفاضات شعبية تعود بعدها ديمقراطيات ضعيفة سرعان ما تُجهَض – وهكذا دواليك. وأبنت بأن العوامل البنيوية (الانقسام العمودي شمال/جنوب، والتنوع الإثني والجهوي، وإخفاق الوفاء بالعهود المبكرة مثل الفيدرالية) قد تفسّر منشأ الاختلال، لكنها لا تكفي وحدها للإجابة عن ثلاث أسئلة مفصلية: كيف ينجح السودانيون في لحظات فارقة في توحيد صفوفهم لإسقاط الشموليات؟ ولماذا يتبدّد هذا الإجماع بعد الانتصار؟ ولماذا تعجز النخب عن التعلّم من الدروس المتكررة؟ هنا يستدعي المقال نظرية الممرّ الضيق (أسيموغلو وروبنسون) التي تربط استدامة الحرية بتوازن نسبي بين قوة الدولة وقوة المجتمع. ويعرض أربعة أنماط: “ليفياثان مستبد مقتدر”، و“ليفياثان ورقي” (مستبد ضعيف)، و“ليفياثان غائب”، و“ليفياثان مُكبَّل” (دولة قوية مقيدة بالمجتمع). بتطبيق هذا الإطار على السودان، يرى المقال أن الانتفاضات الثلاث دفعت النظام إلى حافة الممرّ، لكن الاستقطاب الشديد، غياب مؤسسات تحكيم ذات مصداقية، والأزمات الاقتصادية/السياسية الكبرى حالت دون البقاء داخله والتقدّم صعوداً نحو الدولة البرامجية القوية المقيدة بالمجتمع.

يفيد المقال بأن الخروج من المتلازمة لا يتحقق بشعار “الدولة القوية أولاً” ولا بـ“مجتمع بلا دولة”، بل ببناء توازن تراكمي بينهما: تمكين المجتمع المدني مع ترسيخ مؤسسات تحكيم موثوقة (للدستور، والفصل بين السلطات، وتسوية النزاعات)، وخفض الاستقطاب عبر سردية وطنية جامعة وعقد اجتماعي يستوعب التنوع، ومواجهة الأزمات الاقتصادية بسياسات تقلّل الهشاشة التي تغذي الانقلابات. عندها فقط يمكن الدخول إلى الممرّ الضيق والبقاء فيه حتى تتبلور دولة قوية مقيدة برقابة المجتمع، قادرة على تقديم السلع العامة دون أن تنقلب إلى استبداد. ويُرجئ المقال تفصيل نقد النخبة وسبل إعادة التوازن مع “النخبة الحربية” إلى المقال التالي، باعتباره امتداداً عملياً لهذه الخلاصة النظرية.

 

Elbadawi, Ibrahim and Alzaki Alhelo. (2023). “The Sudan Syndrome: State-Society Contests and the Future of Democracy After the December 2018 Revolution,” ERF Working Paper No. 1644, Economic Research Forum, Cairo, Egypt: August.

الأستاذ عالم عباس.2021. “الفعل الثقافى والأحزاب السودانية”، 2021.

الدكتور منصور خالد.1993. النخبة السودانية وإدمان الفشل. دار الامين للطباعة والنشر والتوزيع

Daron Acemoglu and James A. Robinson. 2019. The narrow corridor: states, societies, and the fate of liberty – New York: Penguin Press.

بروفيسور دارون أسيموغلو وجيمس روبنسون. 2018. لماذا تفشل الأمم: أصول السلطة والإزدهار والفقر: لماذا تفشل الأمم: أصول السلطة والإزدهار والفقر

Fukuyama, F. (2011). The Origins of Political Order: From Prehuman Times to the French Revolution. New York: Farrar, Straus and Giroux

Huntington, S. (1968). Political Order in Changing Societies. New Haven: Yale University Press

إستخدم أسيموغلو وروبنسون استعارة “الليفياثان”، المستمدة من كتاب ”ليفياثان“ (1651)، لتمثيل الدولة للمفكر البريطانى فى الفلسفة السياسية توماس هوبز (1588-1679).

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.