الزاكي عبد الحميد يكتب.. “سرديات”

*A luta continua*
هذه عبارة باللغة البرتغالية رددتها وكالات الانباء بكثرة خلال النصف الاول من سبعينيات القرن الماضي وتعني ؛
*The Struggle Continues*
أي: *المقاومة مستمرة*..

كانت العبارة هي  الشعار الذي رفعته حركة *فريليمو*  بلغة المستعمر؛ لكونها اللغة السائدة في البلاد؛ لدحر الاستعمار البرتغالي من موزمبيق..

*فريليمو* Frelimo كانت حركة المقاومة الأكبر في موزمبيق؛ أيام نضالها ضد الاستعمار البرتغالي..

زعيمها *سامورا ميشال* زار السودان إبان حكم الرئيس النميري؛ وطلب منه أن يمده باطباء بيطريين من السودان ..استغرب نميري من الطلب وسأله: ماذا تريد بالبياطرة وأنت ما زلت تقاتل؟

فرد عليه: نعم؛  نحن ما زلنا نقاتل من أجل تحرير بلادنا؛  ولكن تواجهنا مصاعب عديدة منها الحمير..

النميري تزداد حيرته فيسأل: ما لها الحمير؟

فيرد عليه: نحن نحمل الأسلحة التي نقاتل بها على ظهور الحمير في طرق وعرة للغاية؛ تتخللها جبال تحمينا من عيون المستعمر..إلا أن الحمير تنهق أثناء سيرها فتنبه المحتلين بحركتنا؛ فنفشل..نريد اطباء بيطريين ليعالجوا حناجر هذه الحمير؛ حتى لا يكون نهيقها مسموعا لمسافات بعيدة..

النميري فهم القصد وزود الحركة بأسلحة حديثة لا تُحمل على ظهور الحمير..

كان السودان  من أكثر الدول سخاءً في مساعدة  *سامورا ميشال* حتى نال استقلال بلاده؛  وصار أول رئيس لها في عام ١٩٧٥ إلى ان قُتل في حادث مثير للجدل عام ١٩٨٦ ..اشارت بعض التقارير الصحفية حينها إلى أن الحادثة كانت بتدبير من قبيلة ماكوا Makua التي كانت ترى انها الأحق بحكم البلاد..سامورا ينتمي لقبيلة شونا Shona والتي؛ رغم حجمها الكبير كمجموعة اثنية؛ كانت مستضعفة في موزمبيق؛ لوجود اعداد كبيرة منها في زيمبابوي..وبالتالي كانت قبيلة ماكوا المنافسة لها تطعن في نسبها لموزمبيق!

*For the nation to live; the tribe must die..*

*لكي تبقى الأمة وتعيش؛  لا بد أن تموت القبلية وتفنى!*

هكذا قال *سامورا ميشيل* اول رئيس لموزمبيق بعد الاستقلال؛ واصفا بروز النعرة القبلية كعامل أساسي في استمرار الحرب الأهلية في بلاده..

دون السابعة في العمر..صبيةٌ ذات وجهٍ صبوح؛  ياتلِق سواداً..
هل الأسود يأتلِق؟
نعم؛  اجاب على السؤال *ليوبولد سنغور* حين اعتلت *النجمة السوداء* علم غانا..وكذلك قالت احلام مستغانمي في  *الأسود يليق بك*؛ الرواية التي جاءتنا مغسولة بأمطار الشعر؛ وقبلها كان المتنبي مادحا كافور  ومؤكداً ائتلاق الأسود:

*تفضح الشمسَ كلما ذرتِ الشمسُ بشمسٍ منيرةٍ سوداء..*

الصبية الضحية  تُلقى بعنف على الأرض..أربع نساء بحجم المأساة؛  يقفن فوق الجسد المسجى؛ يحدقن في الضحية بنظرات يتطاير منها الشرر..أخفن الضحية..سكنت حركتُها خوفا ونظرتها تتابع بحذر الخوف الأعظم القادم:
ناحِت الجلود skin craver  يُقبل نحوها؛  وفي يمناه موس تلتمع وسخام (سجم؛ سواد الدخان) يفوق حلكةَ الليل سواداً..

حاولت الصبية ان تصرخَ غير ان صوتَها هجر حنجرتَها حين رمقتها المراة البدينة التي تمسك بذراعها اليمنى؛ بنظرةٍ،  هي الخوف يمشي على قدمين..

ثم بدأت المأساة!

قبل بضع سنوات أجرت مجلة *نيو أفريكان* مسابقة حول أجمل مقال/قصيدة يتناول فناً من فنون أفريقيا الآيلة للزوال..
A dying African Art..
فاز بالجائزة الأولى شاعر وناشط سياسي نيجيري اسمه *فلورنشو أحمد اديكونلي* Folorunso Ahmed Adekunle عن قصيدة نظمها بعنوان:
The Heinous Marks
*الوسوم اللعينة*..

يفتتح الشاعر قصيدته بخروجه من رحم أمه بوجهٍ وضيء مثله مثل بقية الأطفال:

With a glowing face I came to your world;
Like other infants..

بوجهٍ وضيء جئتكم..
بمجيئي في بداياتي فرحتم؛
كفرحكم بالأطفال حين يولدون..
وللحب على انغام الطبول الناطقة رقصتم..
بالذبائح لا بالوسوم اللعينة بمقدمي احتفيتم..

فرح الأهل بمقدمه الميمون؛ فذبحوا الذبائح،  وعلى ايقاع  الطبول الناطقة بلهجاتهم المحلية  (Talking drums)  غنوا ورقصوا..
ومرت الأيام..
ثم كان ما كان:

Like a criminal I was handed over to skin craver;
“Wuan wuanwuan”
In state of acute pain I cried;
Suddenly my face got stamped with marks..

كمجرمٍ دفعوني لنحات الجلود..
تلقّفني..
تملَّكني..
وبدأ النزيف..
صرخت بأعلى صوتي من شدة الألم؛
ولكن ما من مجيب..
وُئدت أستغاثتي..
ثم فجأة امتلأ وجهي (الذي كان وضيئا) بالوسوم!

هكذا حصد الشاعر النيجيري جائزته حين وصف مأساة الجمال في ذلك البلد الأفريقي..

أما في السودان فقال شاعرنا:

*تلقى الديسو كابي وأدعج العينين..*
*شلخ ود عيسى محراتاً غرز في الطين..*

هذا الخد اللادن  غاصت فيه موس *ود عيسى* كما يغوص المحراث في الأرض الطينية المروية!

الله لا كسبك يا *ود عيسى* ياخ!

و *ود عيسى* هذا من المشاهير الذين كانوا يجرون هذه الجراحة التجميلية وربما كان ممن يحسنون رسمها..

وبعض اهلنا كان تعجبهم الشلوخ العميقة التي تحبس الدمعة *أسبوعا كاملا*:

*ساقك لي ركبتك تب عديلاً شمعة..*
*وشلخك ستة يوم يحبس غزير الدمعة..*

وربما تعجّب أهل زماننا من ود عيسى وأمثاله؛  وكيف كانت أيديهم تطاوعهم على تلك الفعلة القاسية..ولكن معايير الجمال وقتها، كانت مسوّغا لقولهم واقبالهم عليه؛  ولاهل كل زمان ما يشتهون..

على أن ظاهرة الشلوخ  بدأت تتلاشى شيئا فشيئا؛  حتى أننا نجد البدو أهل الولع بهذه العادة،  أقلعوا عنها وفي ذلك يقول شاعرهم:

*سخلة ود فهيد أم روبة مدروعة..*
*بَعامية سادة مهدّلة ومربوعة..*

يشبهها بالسخلة البعامية؛ أي التي ليست لها قرون،  لعله هنا يعني أنها ممشطة على عادة البدويات، وليست لها قجة او تسريحة أشبه بالقرون..والسخلة ملساء الوجه لا كالشاة الكبيرة..ولا يُلام الشاعر هنا؛ لانه إنما يصدر في تشبيهاته، عما يلتقطه من بيئته؛ والشاعر كما نعلم ابن بيئته!

تغنى شعراء الحقيبة  بالشلوخ العارض والمطارق والنقرابي على خدود المرأة..

وتغنوا بالفصدة كذلك وهي الشلوخ  ذاتها وإن صغر حجمُها..

وهي التي يتغنى بها الراحل التاج مصطفى:

*لي من شوفتو مدة*
*حبيبي نسى المودة؛*
*أسمر خمري لونو*
*حبيب في خديدو فصدة..*

صدر عن مركز عبد الكريم ميرغني قبل عامين او ثلاثة؛  كتاب للدكتور *حسن الجزولي* بعنوان *الملهمات*..

كتاب شائق؛ تناول فيه المؤلف بأسلوب سلس، أولئك الحسناوات، اللائي شحذن قرائح العديد من شعراء الحقيبة؛ فقالوا فيهن أغنيات خالدات..

وما ميز عمل الدكتور حسن الاستقصائي؛ أنه نجح بصبره  في توثيق مؤلفه، بصور فتوغرافية، لمن كنّ ملهمات لبعض اغنيات الحقيبة:

*قايد الاسطول، وسيدة وجمالا فريد، وبدور القلعة، والشويدن روض الجنان، والعجب تيها،* وغيرها قيلت في حسناوات ام درمانيات؛ كانت شلوخهن من مياسم الجمال، في عشرينيات القرن الماضي في السودان..

ما لفت نظري بوجه خاص وانا استكشف مكامن الجمال في الصور الفتوغرافية، التي زين بها الدكتور حسن كتابه؛ إلى جانب حديثه الموثق عن كل واحدة من أولئك الملهمات؛ ان الشلوخ كانت السمة المشتركة بينهن جميعا.

ثم جاء الشعراء المجددون- ومنهم عبد الرحمن الريح-في رائعة حسن عطية- يروجون للخدود السادة ايذانا بالتخلي عن الشلوخ:

*ما شوّهوك بفصادة للخدود السادة..*

وهكذا بدأت ظاهرة الشلوخ تتلاشى تدريجيا، إلى أن زالت او كادت تزول في كل مناطق السودان..

ومع ان المسابقة التي نظمتها مجلة نيو افريكان، كانت في سياق فنون افريقية آيلة للزوال إلا أن الشلوخ/الوِسوم- ستبقى أبد الآبدين في أفريقيا؛  رغم قتامة المشهد  والمعاناة التي صورها الشاعر فلورنشو في قصيدة Heinous Tribal Marks أي الوِسوم/الشلوخ اللعينة؛ وما ذلك إلا لأنها كما قال حكماء القارة السمراء:

A way of indentification- so they will remain as a key factor to our people’s survival and existence!

أي أنها وسيلة لتحديد هُوِّيتنا؛ لذلك لا غَرو إن ظلت عاملا أساسيا في بقاء أمتنا وسر وجودها..

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.