وزير المالية السابق بروفيسور إبراهيم البدوي يكتب..”العملية الأممية واستحقاق الاصلاح الأمنى الشامل والعدالة الانتقالية “

نحو مشروع وطني من أجل السلام المدني الديمقراطي النهضوى

المقال الحادى عشر: العملية الأممية واستحقاق الاصلاح الأمنى الشامل والعدالة الانتقالية

بقلم: بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي ،وزير المالية والتخطيط الاقتصادى السابق ،والمدير التنفيذي، منتدى الدراسات والبحوث الإنمائية

“بعد حرب أبريل عام 2023 وعودة أغلب أذرع النظام البائد إلى الخدمة بقرارات صادرة عن دائرة القاضي أبوسبيحة، ووفقًا للخطة الشيطانية التي رسمها أحمد هارون، انحصرت مهمة السلطة القضائية في مرحلتين أساسيتين بعد أن نجحت مهمة الإفلات من العقاب خلال فترة الانقلاب:

المهمة الأولى: جمع وسرقة أكبر قدر من الأموال عبر مؤسسات السلطة القضائية، بهدف دعم الحرب التي تعيد إليهم مجدهم الزائل.

المهمة الثانية: الانتقام والتشفي من كل دعاة التغيير، وإخماد أصواتهم إلى الأبد في حال عادت الحركة الإسلامية إلى السلطة عبر فوهة بندقية الحرب، حيث تُخمد ثورة ديسمبر إلى الأبد، ويصبح كل من هتف باسمها إما في عداد الأموات أو داخل السجون بأحكام الإعدام أو المؤبد، بتهم مفصلة على مقاس ظلمهم مثل “تقويض النظام الدستوري” و”إثارة الحرب ضد الدولة”، لمجرد رفضهم للحرب ومطالبتهم بالسلام أو تعاونهم مع قوات الدعم السريع.”

(الملف الأسود لفساد السلطة القضائية السودانية في فترتي الانقلاب والحرب، بقلم الأستاذة/ رحاب مبارك سيد أحمد، عضو المكتب التنفيذي – محامو الطوارئ، 28 يوليو، 2025)
الاصلاح الأمنى والعدلى الشامل ستكون من أهم وأعقد استحقاقات الفترة الانتقالية المرتقبة، باذن الله، وأكثرها الحاحاً. فالدمار الذى الحقته طغمة الانقاذ السابقة وأيضاً اللاحقة – عندما أُعيد تأهيلها بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر – بالقوات النظامية قد تبين بجلاء ابتداءً باشتعال هذه الحرب الماحقة والانتهاكات الى حدثت وتحدث بسببها ومن كل أطرافها بلا استثناء. أما ما حدث للمؤسسة العدلية فقد تم توثيقه بهمة واقتدار من قبل الأستاذة/ رحاب سيد أحمد فى سلسلة مقالاتها عن فساد السلطة القضائية فى فترتى الانقلاب والحرب، كما أشرنا فى الاقتطاف أعلاه.

تُظهِر تجارب الدول الخارجة من الحروب الأهلية ان الإصلاح الأمني الشامل والعدالة الانتقالية ليسا ملفاتٍ لاحقة للسلام، بل هما شرطٌ لبنائة واستدامته. فالإصلاح الأمني يعيد بناء احتكار الدولة للعنف عبر دمجٍ مهنيٍّ وانتقائيٍّ للقوى، ونزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، ووضع عقيدة غير مُسيَّسة تحت قيادةٍ مدنية ورقابةٍ برلمانية وقضائية. ومن دون ذلك تبقى الميليشيات واقتصادات الحرب قادرةً على التخريب، وتتآكل الثقة في أي حكومةٍ انتقالية. بالموازاة، تؤسّس العدالة الانتقالية لمنظومة محاسبة وحقيقة وجبر ضرر وضمانات عدم تكرار، فتُرفَع كلفة الإفلات من العقاب وتُستعاد شرعية الدولة لدى الضحايا والمجتمعات المتضررة. وعندما يُصمَّم المساران كمنظومة واحدة – محاكمات محددة للجرائم الأشد جسامة، وهيئة حقيقة وجبرٍ للملفات الأوسع، مع بناء أدوات “للضبط والمساءلة” ذات مصداقية في القطاعات الحساسة – تتشكل «ديمقراطيةٌ دفاعيةٌ» قادرة على حماية نفسها من الارتداد.
بالنسبة للسودان بعد وقف الحرب الراهنة، الدرس الأهم هو البدء المبكر والتلازم المؤسسي: إعداد مسودّات القوانين، وتوحيد بروتوكولات جمع الأدلة، وتشكيل نواة هيئة عدالة انتقالية وخلية إصلاح أمني قبل «اليوم التالي»، كي لا يملأ الفراغَ منطقُ القوة. ويتطلب النجاح ربط العدالة والإصلاح الأمني بمؤتمر وطني جامع يمنح تفويضاً شعبياً، وتمويلاً مشروطاً بمعالمٍ قابلة للقياس (فتح ممرات آمنة، تشغيل وحدات التحقيق، إطلاق برامج الجبر، واعتماد لوائح الاندماج والفرز)، مع الاستفادة من مساندة أممية متعددة الأبعاد لتأمين الحماية الفنية والحياد وحوكمة الموارد. بهذه الهندسة، لا يصبح السلام هدنةً هشة، بل نقطة انطلاقٍ لانتقالٍ مدنيٍّ محصَّن يعالج جراح الماضي ويؤسّس لشرعية أداءٍ تُعيد وصل الدولة بالمجتمع.

وهنا يأتى السؤال عن ما الذي يمكن أن تقدّمه عملية أممية متعددة الأبعاد فى هذا السياق؟

الكلمة الفصل فى هذا الموضوع يجب أن تُترك لخُبراء القانون والأمن السودانيين. مع ذلك، كشخص غير متخصص أود أن أطرح هذه الموضوع للنقاش من وجهة نظر استعراض بعض الأفكار المتاحة فى الأدبيات وتجارب عمليات الأمم المتحدة لعناية الخبراء والقوى المدنية الديمقراطية والشرفاء من قادتنا العسكريين والأمنيين.  قادتنى المطالعة والبحث فى هذه الأدبيات الى خمسة ركائز للمشروع الوطنى المتعلق بهذين المحورين، مستصحباً تفويضاً أممياً (متكاملاً مع الإيقاد والاتحاد الإفريقي) يركّز على حماية المدنيين وسيادة القانون وإصلاح القطاع الأمني، مع ربطٍ ذكيّ بين مؤشرات العدالة ومكاسب التمويل والدعم الفني:

أولاً، ركيزة سيادة القانون والعدالة الانتقالية:

غرفة/محكمة هجينة رفيعة لجرائم الفئة الأشد جسامة، بدعم قضائي وادعاء دوليَّين، ووحدات حماية الشهود والطب الشرعي والأدلة الرقمية لخدمة كلٍّ من مسار المحاكمات ومسار الحقيقة.

مساندة تقنية لإنشاء هيئة حقيقة وجبر ضرر: معايير الاعتراف الكامل، قنوات الإفصاح الآمن، تصنيف الانتهاكات، وآليات إحالةٍ إلى النيابة عند اللزوم.

صندوق جبر الضرر وإعادة التأهيل يُموَّل من أصولٍ مُستردة ومساهماتٍ دولية، ويُدار وفق حوكمة شفافة تربط مخرجات الحقيقة ببرامج جبرٍ فردي وجماعي (خدمات في المناطق الأشد تضرراً).

ثانياً، ركيزة الإصلاح الأمني الشامل ونزع السلاح والتسريح واعادة الدمج:

يشير مصطلح ”إعادة بناء القطاع الأمني“  (security sector reform: SSR)إلى عملية شاملة تضطلع بها الحكومات الانتقالية بعد انتهاء الحروب الأهلية، غالباً بدعم من الشركاء الدوليين والمجتمع المدني، بهدف تحسين فعالية مؤسساتها الأمنية ومساءلتها واستجابتها لاحتياجات شعبها، في إطار من الحكم الديمقراطي وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.  في سياق إصلاح القطاع الأمني تعني نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج .(Disarmament, Demobilization and Reintegration: DDR) هذه العملية هي جزء مهم من التعافي بعد النزاع وتهدف إلى تحقيق الأمن والاستقرار من خلال:

نزع السلاح: جمع الأسلحة التي بحوزة المقاتلين والتخلص منها.
التسريح: إخراج المقاتلين رسمياً من وحداتهم القتالية وإعدادهم للحياة المدنية.

إعادة الإدماج: مساعدة المقاتلين السابقين على العودة إلى المجتمع المدني وأن يصبحوا أعضاء منتجين، وغالباً ما يشمل ذلك التدريب المهني والدعم النفسي والاجتماعي.

فى هذا المجال يمكن للأمم المتحدة تقديم دعم مقدَّر للسلطة الانتقالية تشمل:

انشاء خلية وطنية -أممية  مشتركة (مدنية القيادة) لاعادة بناء القطاع الأمنى تضم خبراء في العقيدة المهنية للجيش والقوات النظامية، وإدارة الموارد البشرية، لصياغة قوانين الخدمة والانضباط والرقابة المدنية البرلمانية.

اسناد وتدريب من قِبل شرطة أممية (UNPOL) وحدات شرطة سودانية مُشكّلة لتأمين العدالة الميدانية وحماية المحاكم والشهود خلال المرحلة الأولى، مع برنامج تأهيل الشرطة الوطنية.

المساعدة فى بناء برنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج مصمم  سياقياً بباقة حوافز اقتصادية وتعليمية، مع مسارات مراقبة وتحقق  دقيقة لمنع إعادة تدوير شبكات العنف داخل الأجهزة.

المساعدة فى تطوير معايير استخدام القوة وحقوق الإنسان كشرطٍ للدمج والترقية، وبرنامج نزاهة يربط القيادات الأمنية باختبارات ملاءمة دورية.

ثالثاً، ركيزة الحقوق والحماية والمعلومات:

رصدٌ منهجي لانتهاكات حقوق الإنسان يغذي قاعدة الأدلة الوطنية ويزود مسارَي العدالة بالمعلومات الموثوقة.
إدارة أرشيف وطني وذاكرة مؤسسية: دعم تقني للرقمنة، تصاريح الوصول، وحماية البيانات الحساسة، مع برنامج تربية مدنية وإعلام عمومي يحوّل الحقيقة إلى معرفةٍ عامة.
اتصال استراتيجي لمكافحة التضليل وخطاب الكراهية، وحماية مساحة المجتمع المدني والنقابات.

رابعاً، آليات تمويل وربطٍ مشروط

صندوق متعدد الشركاء (Multi-Partner Trust Fund) يربط الصرف على الأمن والخدمات الأساسية بـ معالم  واضحة(Transparent Benchmarks)  : تشغيل الهيئة الهجينة، إصدار تقارير الحقيقة، تنفيذ دفعات من الجبر، واعتماد لوائح الضبط والمراقبة.

دعمٌ تشغيلي للوزارات المدنية (عدل، داخلية، مالية) عبر مستشارين مدمجين و«جسور تعاقد» قصيرة الأجل تمنع فراغ اليوم التالي.

خامساً، تخطيط مشترك ومؤشرات نجاح:

اتفاق أداء بين الحكومة الانتقالية والبعثة يحدد الأهداف بحسب جداول زمنية محددة، مثل  180 يوماً و24 شهراً، يمكن معه قياس تراجع العنف السياسي، معدلات الإدانة في القضايا الجسيمة مع محاكمات عادلة، حجم الإفصاحات أمام هيئة الحقيقة، نسب صرف على جبر الضرر، وتقدّم إصلاح الشرطة والجيش.

تجارب دولية ملهمة:

هناك تجارب متينة نجحت فيها الدول في إعادة هيكلة القوات المسلحة وإعادة توجيه عقيدتها لتتلاءم مع انتقالٍ مدنيِ ديمقراطي. فيما يلي أمثلة موجزة ودروس عملية يمكن لسودان ما بعد الحرب الإفادة منها:

جنوب أفريقيا (1994–1999): أُقِرَّ «الدفاع في دولة ديمقراطية» بوصفه مرجعية عقائدية تُخضِع الجيش لقيادةٍ مدنية منتخبة وتربط الأمن بحقوق المواطنين، مع دمج القوات السابقة في قوة وطنية واحدة  وإطلاق رقابة برلمانية وشفافية في السياسات الدفاعية. هذا التحوّل العقائدي نُصِّ عليه مبكراً في «الورقة البيضاء للدفاع» لعام 1996، فصار موجِّهاً للتنظيم والتسليح والتعليم العسكري.

إندونيسيا (منذ 1999): تفكيك «الوظيفة المزدوجة» التي شرعنت الدور السياسي للجيش، وفصل الشرطة عن القوات المسلحة سنة 1999، ثم قانون 34/2004 الذي حدّد مهام  القوات المسلحة الوطنية الإندونيسية (بالإندونيسية: Tentara Nasional Indonesia (TNI)) وأخرجها من مهام الأمن الداخلي وأعاد صياغة عقيدتها المهنية بعيداً عن السيطرة على السياسة والاقتصاد المحلي.

سيراليون (1997–2007): إصلاحٌ أمني واسع بدعم بريطاني وأممي شمل إعادة بناء وزارة الدفاع، وتطوير التعليم العسكري والقيادة والسيطرة، مع إنشاء آليات رقابة مثل مكتب الأمن القومي. تركّزت العقيدة الجديدة على «أمن المواطن» لا بقاء النظام، فاستعادت الدولة احتكار القوة تدريجياً.

ليبيريا (بعد 2003): حُلَّ الجيش عملياً وأُعيد تشكيل «القوات المسلحة الليبيرية» عبر انتقاء وتدريب جديدين وفصلٍ صارم بين الأمن الداخلي والدفاع، نتج عنها بعض المؤشرات الايجابية عن أهمية الحوكمة المدنية لتعزيز قدرات وزارة الدفاع.
البوسنة والهرسك (2003–2005): توحيد جيوش الكيانات تحت وزارة دفاع دولة واحدة، وإرساء رقابة برلمانية ومدنية بدعم من الناتو؛ وهو تعديل مؤسسي-عقائدي أنهى ازدواجية الجيوش في دولة واحدة.

ما الذي تعنيه هذه التجارب لِلسودان؟

اعتماد «مراجعة دفاعية/ورقة بيضاء» مبكّرة تحدّد فلسفة «الدفاع في دولة ديمقراطية»، وتربط مهمة القوات المسلحة بالدستور وحقوق المواطنين، مع نقل الأمن الداخلي إلى شرطة مهنية خاضعة لوزارة الداخلية. هذا ما تؤكده مرجعيات الأمم المتحدة كأفضل ممارسة لـمفهوم الاصلاح الأمنى الشامل.
إصلاح هيكلي وعقائدي متلازمان: إعادة ترسيم سلسلة القيادة تحت سلطة مدنية، دمج/تسريح وإعادة إدماج  وفق معايير مهنية دقيقة، وتحويل المناهج في الكليات العسكرية نحو القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان والرقابة المدنية.

دروس سيراليون وليبيريا تؤكد أن العقيدة والحوكمة تحددان استدامة الإصلاح أكثر من التدريب وحده.

تفكيك الازدواجية وتحييد السياسة: إنهاء أي دور حزبي أو اقتصادي للمؤسسة العسكرية، ومنع «الوظيفة المزدوجة» على الطريقة الإندونيسية، مع حوكمة شفافة لميزانية الدفاع وتدقيقٍ خارجي/برلماني.

مسار اندماج وطني واقعي: حيث توجد قوات متعددة الولاءات، يُستفاد من نموذج البوسنة لتوحيدها تحت وزارة دفاع واحدة ومذهب عملياتي موحّد، مع جدول زمني ملزِم وضمانات إقليمية/دولية.

خاتمة:

تُظهر تجارب الأمم المتحدة أن الجمع بين الإصلاح الأمني الشامل والعدالة الانتقالية في تفويضٍ واحد يسرّع الخروج من الحرب ويحصّن الانتقال المدني.   برأى، ان الدرس المستفاد للسودان من هذه التجارب وغيرها مما يتوفر للخبراء السودانيين المعنيين وقيادات القوى المدنية الديمقراطية واضح: تفويضٌ أمميّ متعدد الأبعاد – متكامل مع المسارات الإقليمية – يمكن أن يعمل كـرافع مؤسسى يُمسك بخيوط الإصلاح الأمني (عقيدة مهنية تحت قيادة مدنية؛ نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج ؛ شرطة خاضعة للمساءلة) وتُفعّل في الوقت نفسه منظومة عدالة انتقالية مزدوجة (غرفة هجينة للجرائم الأشد، وآلية حقيقة وجبر ضرر مشروطة) مع تمويلٍ مشروط بمعالم قابلة للقياس. عندها لا يكون السلام هدنةً عابرة، بل مدخلاً لشرعية أداء تربط الدولة بالمجتمع وتمنع ارتداد العسكرة والحصانة من العقاب.

إعادة هيكلة الجيش وإعادة توجيه عقيدته ممكنة ومجرّبة عندما تُسبقان برؤيةٍ مكتوبة للدفاع الديمقراطي وتُدعمان بحوكمة مدنية قوية، وبرنامج وازن للضبط ومراقبة الأداء، وتعليمٍ عسكريٍ محدَّث، وشفافية مالية، وتكاملٍ مع إصلاح العدالة وسيادة القانون. هذه العناصر – الموثّقة في أدبيات الأمم المتحدة وتجارب جنوب أفريقيا وإندونيسيا وسيراليون وليبيريا والبوسنة – هي حجر الزاوية لبناء جيشٍ وطنيّ مهنيّ يحرس التحوّل المدني بدلاً من يسعى لمنافسته وتقويضه فى نهاية المطاف.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.