مكارم جميل تكتب.. “والـجروح قصاص..”

في معجم الروح، لا جرح يمرُّ عابرًا، كل نزفٍ يترك أثرًا، وكل طعنةٍ تترك ندبةً تنطق ولو صمت الجسد. نظن أحيانًا أن الجرح يندمل، لكنه في الحقيقة يتربّص، يكتب علينا دينًا مؤجَّلًا حتى يقتصّ منّا أو من غيرنا، فالجرح بالجرح والوجع بالوجع هكذا علّمتنا قسوة التجربة. الذي يزرع خنجرًا في صدر قلب بريء لا بد أن يذوق طعنته ذات يوم ولو من يد أخرى، والذي يكسِر روحًا باسم الحب ستتكسر روحه بالحب ذاته في لحظة لا يتوقّعها.

الجروح العاطفية ليست نزفًا عابرًا، بل محكمة خفية تصدر أحكامها في صمت، هي قصاص الروح للروح، حين يرحل من أحببناه بلا وداع، حين يخون من منحناه الأمان، حين يكذب أحدهم علينا ، نصحو على خيبة لم نحسب حسابها… لا حاجة لنا بانتقامٍ علني، فالزمن والقلوب التي لم تخلُ من وجع تكفي كي تسترد حقّها. إنها عدالة لا يكتبها القانون، بل يكتبها الصمت وينفّذها الليل وتشهد عليها دموع لا يراها أحد. الجروح قصاص.. لأن العاطفة التي لا تُصان تتحوّل إلى محكمة، وقاضيها الوحيد هو الذاكرة.

ليست الجروح مجرد ندوب على جسد الروح، بل رسائل نفسية عميقة تذكّرنا بأننا لم نحسن الاختيار أو أننا وثقنا أكثر مما ينبغي. كل جرح عاطفي امتحان للنفس بين أن تنكسر أو أن تتعلّم كيف تنهض أكثر وعيًا. النفس المجروحة لا تطلب الانتقام كما يتوهّم البعض، بل تبحث عن التوازن، وحين نتألّم من شخص ما يتولّد داخلنا شعور باللاعدالة، شعور بأن ميزان العاطفة اختلّ، ومن طبيعة النفس أن تعيد التوازن أحيانًا بالصمت وأحيانًا بالانسحاب وأحيانًا بالبرود العاطفي. ذلك هو القصاص النفسي: أن يفقد الجارح مكانه في القلب، أن يسقط من الذاكرة التي كانت تُعلي شأنه. إن أقسى قصاص للنفس الجارحة ليس أن نؤذيها كما آذتنا، بل أن نُشفى منها، فالنسيان في علم النفس ليس محوًا للذاكرة، بل تحريرًا من سلطة الألم، وحين نتحرّر يصبح الجرح دليلاً لا لعنة، نورًا لا ظلمة. لكن هناك سرًّا آخر: الجروح لا تختفي كليًّا، إنها تتحوّل إلى خبرة داخلية ترسم خرائط جديدة للنفس، ولهذا نقول إن الجروح قصاص، فهي تقتصّ من براءتنا القديمة وتتركنا أكثر حذرًا وأكثر وعيًا، قصاص النفس من النفس لا من الآخرين.

ومن زاوية الفلسفة النفسية، نجد أن الجرح ليس حدثًا خارجيًا فحسب بل وعيٌ بالذات، فحين نتألّم نحن في الحقيقة نكتشف أنفسنا: حدودنا، هشاشتنا، وما الذي يُحرّكنا في العمق. الجرح ليس هو الطعنة بل إدراكنا أننا تعرضنا لها، والجروح العاطفية أشبه بمرايا صامتة تجبرنا أن نتأمل وجوهنا الحقيقية. من خلالها ندرك أن الحب ليس دائمًا خلاصًا بل قد يكون امتحانًا يعرّينا أمام أنفسنا، وأن الآخر ليس بالضرورة منقذًا بل قد يكون معلمًا قاسيًا يعلّمنا أن الحرية أثمن من التعلّق. ومن منظور فلسفي أعمق، الجرح هو عدالة كونية يعيدنا إلى الداخل حين نُفرِط في التوجّه إلى الخارج، فالذي جُرح سيعرف أن الحياة ليست ميدان ثقة مطلقة بل فضاء توازن بين العطاء والحدّ، ومن يتجاوز الجرح بوعي يتحوّل إلى إنسان أعمق، أكثر حريّة من أوهام الحب وأكثر وفاءً لجوهره. إن أعظم قصاص ليس الذي يقع على من جرحنا، بل الذي يقع في داخلنا: قصاص الوعي إذ يُجبرنا أن نتغير، ولعل هذه هي العدالة الكبرى للجروح: أنها تتركنا مختلفين عمّا كنّا، وكأنها تعيد ولادتنا من جديد.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.