وزير المالية السابق بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي يكتب.. “قسمة الموارد المليشياوية”

المشروع الوطني السوداني  بين رغائبية “دولة البحر والنهر” وأشواق “ثورة ديسمبر عائدة راجحة”

المقال الثاني: “قسمة الموارد المليشياوية”

كما أشرنا في مقالنا الأول لعل من أهم جوانب سردية أصحاب ما يسمى بدولة “البحر والنهر” (أو بالأحرى دولة “الخور والترعة”) يتمثل في شيطنة إقليم دارفور بأكمله بسبب دعوى الاستغلال الجائر والنهب لموارد ولايتي نهر النيل والشمالية بواسطة حركات دارفور المتحالفة مع الجيش.  للأسف هذا ما يحدث ولكن لكى نضع الأمور في نصابها الصحيح لابد من الإشارة الى، والتأكيد على، أن هذا الذى يجرى في ولايتي الشمال وغيرها من ولايات السودان هو  مشروع استباحة شاملة لكل البلاد كثمن لبناء التحالفات العسكرية، مجازٌ ومتفقٌ عليه من كل أطراف الحرب.

فقد أشار تقرير صدر حديثاً عن مؤسسة تشاتام هاوس البريطانية إلى أن حرب أبريل 2023 قد أدت الى تقسيم مناطق الذهب في السودان الى قسمين رئيسيين، حيث تسيطر القوات المسلحة على الولايات الغنية بالذهب مثل الشمالية ونهر النيل والبحر الأحمر، بينما تبسط قوات الدعم السريع سيطرتها على مناطق التعدين في دارفور وغرب كردفان.  وقد أشار التقرير الى أن عمال المناجم الحرفيون (معظمهم من دارفور) ينشطون في مناطق الشمال والشرق تحت إشراف مكثف من القوات المسلحة السودانية. وأشار التقرير تحديداً الى الدور المحوري للحركات المسلحة الدارفورية – وخاصة جماعة حركة العدل والمساواة وفصائل حركة تحرير السودان – في مناطق تعدين الذهب بولايتي نهر النيل والشمالية. وتشمل مشاركتهم السيطرة العسكرية وفرض الضرائب غير الرسمية …الخ.

كما تشير مصادر مختلفة، منها على سبيل المثال ندوة نظمتها الأمم المتحدة لفريق من الخبراء  في العام الماضي  بشأن شبكات الذهب السوداني، ومنظمة غلوبال ويتنس، والصحافة الاستقصائية السودانية، إلى أن التحالف الاستراتيجي بين القوات المسلحة السودانية والحركات المسلحة الدارفورية قد تطور إلى ما هو أبعد من ساحة المعركة ليصبح ترتيبات اقتصادية تتمحور حول المورد الأكثر ربحية في السودان، ألا وهو الذهب. بينما تواصل قوات الدعم السريع سيطرتها على مناطق التعدين في ولايات غرب السودان.

فريق الأمم المتحدة   عن شبكات الذهب السوداني (2024):

استخرجت قوات الدعم السريع ما يقدر بنحو 10 أطنان من الذهب (حوالي 860 مليون دولار) في عام 2024، جزء منها مرتبط مباشرة بالتعدين الحرفي في دارفور (تشاتام هاوس، نوريا ريسيرتش)

حدد الفريق أن القوات المسلحة السودانية والجماعات المسلحة المتحالفة معها (جماعة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان – ميناوي) فرضت ضرائب غير رسمية على عمال المناجم الحرفيين في المناطق الخاضعة لسيطرتها العسكرية، بما في ذلك نهر النيل والولايات الشمالية.

ووثق الفريق وجود نقاط التفتيش ومصادرة الأدوات والتشريد القسري في هذه المناطق، حيث تمارس القوات المسلحة السودانية والمليشيات المتحالفة معها الرقابة العملياتية على مواقع التعدين.

الصحافة الاستقصائية السودانية:

أفادت   أن الفصائل المسلحة في دارفور قد غيرت استراتيجيتها العملياتية بعد عام 2023، مستفيدة من تحالفها مع القوات المسلحة السودانية للوصول إلى حقول الذهب في الشمال وفرض رسوم أمنية أو ضرائب حماية على التعدين المحلي.

وتؤكد التقارير وجود دوريات تابعة لحركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان في المناطق الغنية بالذهب (مثل أبو حمد ووادي حلفا)، حيث تدير الأمن المحلي بينما تستفيد مالياً من عمليات الاستخراج.

وتشير بعض المصادر إلى وجود اتفاقات غير رسمية بين القوات المسلحة السودانية وقادة جماعة حركة العدل والمساواة والحركة الشعبية لتحرير السودان لتقاسم عائدات الذهب كجزء من تحالفهم الاستراتيجي في الحرب ضد قوات الدعم السريع.

قصدنا من ايراد هذه الأدلة النقلية بل وتكرار بعضها – والتي هي في واقع الأمر قيض من فيض- قصدنا التأكيد على أن هناك استباحة شاملة في سياق مشروع متكامل لاستغلال وعسكرة الموارد الطبيعية في السودان بهدف تمويل الحرب والتحالفات العسكرية المليشياوية المترتبة عليها والتى تشمل كل أطراف الحرب وكامل جغرافية هذا البلد المنكوب، وليس فقط ولايتى الشمال أو منسحبة على تغولٍ جائرٍ من حركات دارفور وحدها دون غيرها من أطراف الحرب.

خلاصة:

برأي أن أصحاب “دولة البحر والنهر” هم بالضرورة من سدنة معسكر الحرب، لأن أهدافهم لا يمكن أن تتوافق مع المشروع الوطني لقوى ثورة ديسمبر المجيدة في الانتقال المدني الديمقراطي النهضوي العابر للانتماءات الغرائزية الجهوية-الاثنية.  لهذا اذا أصروا على هذه الفكرة البائسة ليس لهم من خيار سوي التصالح مع فاتورة الصفقة المليشياوية لهذه الحرب وكلفتها الباهظة لهذا البلد المنكوب وشعبه الأبي، بما في ذلك أهل الشمال الأعزاء.  بلا شك، ان الخيار الأفضل هو أن نجتمع على كلمة سواء تحت شجرة ثورة ديسمبر الفيحاء لكى نبنى وطناً يعتز ويحتفى بتنوعه بل ويحسن توظيفه لأنهاء هذه الحرب الكارثية وبناء السلام وتحقيق شعار الثورة الأيقونة في “الحرية والسلام والعدالة”.

كما قال الشاعر التونسي الفحل :

إِذا التـفَّ حـولَ الحـقِّ قـومٌ فإنَّهُ    يُصــَرِّمُ أَحْــداثَ الزَّمــانِ ويُبْـرِمُ

هـوَ الحـقُّ يَغْفـى ثـمَّ يَنْهَضُ ساخِطاً    فيَهْــدُمُ مَــا شـادَ الظَّلامُ ويَحْطِـمُ

عوضاً عن منظومة الفساد والاستبداد التي تعصف ببلادنا منذ انقلاب الخامس والعشرون من أكتوبر المشئوم والتي تفاقمت جراء هذه الحرب الماحقة، سأستعرض في المقالين القادمين ما كان ينتظر بلادنا من حيث قسمة الموارد وتمويل مكافحة الفقر ومشروع الانتقال الاستثماري التنموي اذا قُدِر للنظام الانتقالي لثورة ديسمبر المجيدة أن يمضى الى مداه المرسوم وصولاً للشرعية الديمقراطية المنشودة.

“وَذَكِّرۡ فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ” (الذاريات: 55).

 

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.