
المبادرات المجتمعية.. حين غابت الدولة تكلّم الشعب
الدويم: مبارك علي
أثناء دوي الأسلحة ، ووسط دخان الحرب واشتعال نيران الدمار التي اجتاحت السودان خلال حرب منتصف أبريل 2023م، بزغت مبادرات مجتمعية، حيث أظهرت تلك المبادرات الجانب المشرق لدى إنسان السودان كشعلة أمل في عتمة الألم والخوف والجوع، تجسّد عمق التكاتف الشعبي وروح التضامن التي تميز بها الشعب السوداني دون سائر الشعوب.
نيران الحرب لم تدع رقعة جغرافية لم تصلها، وكانت الآثار السالبة كبيرة حتى في المناطق التي لم تشهد اشتباكًا مسلحًا بين طرفي الحرب (القوات المسلحة – قوات الدعم السريع).
مدينة الدويم بولاية النيل الأبيض واحدة من المدن التي لم تشهد عمليات عسكرية مباشرة، رغم الحصار الذي فرضته عليها قوات الدعم السريع لأكثر من عام. أبناء المدينة لم يقفوا متفرجين على الأوضاع المأساوية التي عاشها المئات من أسر المدينة أو مئات الأسر التي اتخذت الدويم منطقة نزوح لها.
الأسر المنكوبة والتي تقطعت بها السبل في الدويم، خرج المواطنون من عباءة الانتظار إلى ساحات الفعل، وبرزت مبادرات لتوفير الغذاء والدواء والمأوى، وتحولت المدارس وبعض المرافق العامة والمساجد إلى مراكز إيواء تقودها مبادرات شعبية وشباب متطوعون. من بين تلك المبادرات كانت مبادرة أحمد جلكسة الأكثر حراكًا واستمرارية بين عشرات مبادرات مدينة الدويم.
يقول صاحب المبادرة أحمد جلكسة لـ(الغد السوداني): “رجعت إلى الدويم من الخرطوم عقب اندلاع الحرب بأسبوعين، حيث وجدت غرفة الطوارئ بالمدينة قد قامت بإيواء النازحين في المدارس ومراكز الإيواء، وعندما رأينا حاجة النازحين للغذاء والصحة، قمنا بتغطية الجانبين باستخدام العلاقات الشخصية”.
وتابع: “لم نكتفِ بهذا، بل عملنا على توعية الأسر بخطورة الأوبئة التي اجتاحت الدويم كمرض الكوليرا، وتوسعنا أكثر في دعم الأسر بتوفير مياه الشرب خاصة في فصل الندرة أو عند انقطاع الإمداد المائي عن المدينة عبر تناكر المياه التي نقوم بتوزيعها على المحتاجين”.
ولفت إلى أن الأعياد لها وضعية خاصة، لا سيما في عيد الأضحى، حيث قامت المبادرة بذبح أضحية بتكلفة (23) مليار جنيه سوداني تم توزيعها على كافة مراكز الإيواء بالدويم وبمركز إيواء خارج الدويم في منطقة أبوحبيرة وشبشة.
وأضاف أحمد قائلًا: “قدمنا مواد غذائية إلى المحتاجين في مراكز الإيواء، بجانب تعاوني مع المنظمات في توصيل المواد الغذائية، كما اتصلنا ببعض المنظمات لدعم المحتاجين في مراكز الإيواء”.
وأشار إلى أن مبادرته وفرت حافلات سفر إلى مدينة مدني خلال العودة الطوعية التي انتظمت المدينة عقب تحرير ود مدني من قوات الدعم السريع.
وزاد: “المجتمع المحلي بالدويم لم يغفل عن دعم الأسر المحتاجة؛ حيث قمنا بمشروع الحقيبة الرمضانية وأعددنا (600) حقيبة رمضانية بتكلفة أكثر من أربعين مليار جنيه وزعت على الأرامل. وساهمت المبادرة في الجانب التعليمي، وتحديدًا خلال امتحانات الابتدائية والمتوسطة والثانوية، بتوفير وجبات للطلاب وتوفير المياه الباردة. وفي موسم الشتاء قمنا بتوزيع (دفايات) على الأسر المحتاجة”.
وحول تمويل المشاريع، يقول أحمد: لا توجد أي جهة تقوم بتمويلنا، نعتمد بشكل أساسي على الخيرين عبر مجموعة الواتساب وموقع الفيسبوك، بدعوة الخيرين عبر الموقعين.
كما ساهمت المبادرة مع مبادرات أخرى في توفير الجازولين لمركز غسيل الكلى بالدويم، خاصة في فترات انقطاع التيار الكهربائي وعدم استقراره خلال العامين الماضيين، بجانب توفير القسطرات للمرضى غير المقتدرين.
وأضاف: لدينا مشاريع مستقبلية، خاصة وأن كافة القطاعات تحتاج إلى تنمية، فسوف نبدأ بمشاريعنا في الملف التعليمي، حيث قمنا بحصر المدارس التي تحتاج إلى ترميم وصيانة، ووجدنا أن التكلفة عالية، وسنبدأ بمدارس المرحلة الثانوية للبنات، ومن ثم نلتفت إلى مجموعة ذوي الاحتياجات الخاصة، ولدينا فكرة لتنفيذ برنامج زواج لهذه الفئة.
من جهتها، قالت فاطمة الأمين، متطوعة تعمل في مجال العمل الإنساني لـ”الغد السوداني”: الكثير من شرائح المجتمع لعبت دورًا أساسيًا في دعم المبادرات التي ظهرت عقب المحنة التي يمر بها المجتمع السوداني، شاهدنا المئات من المبادرات المجتمعية في كافة مدن وقرى السودان، مثل المطابخ والتكايا في مناطق الشدة التي كانت تعد الطعام للأسر التي لم تستطع الخروج من منازلها مع انعدام كامل للمواد الغذائية، فالجانب الخيري عند السودانيين لم ينكسر رغم الظروف القاهرة التي حاصرت الجميع.
وأضافت: “رغم القسوة التي يعيشها السودانيون في فترة الحرب، إلا أن هذه المبادرات أكدت أن وحدة المجتمع يمكن أن تصنع فرقًا كبيرًا في أكثر اللحظات الحرجة والمظلمة، وقد أظهرت التجارب أن المواطن السوداني مهما اشتدت عليه الخطوب، فإنه قادر على الوقوف في وجه الريح، وأن يصمد ويبتكر ويحوّل الفوضى إلى فرصة للعمل الجماعي”.
وتابعت: “حين غابت الدولة وتراجعت المؤسسات، نهضت المجتمعات بوعيها الداخلي لتملىء الفراغ، في مشهد يُعد من أبهى تجليات الإنسانية في وجه المعاناة”.
وقالت: حان الوقت لأن تلتفت الحكومة والعالم ليمدوا أيديهم لرفع المأساة عن الشعب السوداني، لأنه قدم تضحيات جسام خلال فترة الحرب التي خسر فيها الأرواح والممتلكات.
وأكدت أن الجميع يجب أن يعمل على رتق النسيج الاجتماعي، لأن الحرب تسببت في تمزيق العلاقات وأشعلت الفتن، ومن جانب آخر، أظهرت المبادرات قدرة مذهلة على تجاوز الانقسامات المجتمعية الحادة، والمستقبل بحاجة ماسة إلى تعميق هذه الروح.
وأشارت إلى أن غياب الدولة علم المواطنين أن الاعتماد عليها لا يكفي، لذا يُنتظر من المجتمع أن ينشئ منظمات مجتمع مدني قوية، وأن يطالب بحقه في المشاركة، وأن المبادرات التي بدأت بمساعدة الناس في الخبز والدواء يمكن أن تتطور لمشروعات تنموية كبيرة، وأن يعمل المجتمع على التصدي لخطاب الكراهية، وأن يكون خط الدفاع الأول، لأن المستقبل لن يُصنع في أروقة السياسة، بل في المنازل والأحياء والقرى والمدن، وعلى أكتاف الشعب الذي واجه الموت بالحياة، والجوع بالكرامة، والدمار بالبناء.