ما بعد الحرب، ما قبل الخرائط: السودان في مفترق التحولات الجيوسياسية
بقلم: صفاء الزين
في لحظات ما بعد الكارثة، لا تنشغل الدول الناجية بترميم الركام فقط، وإنما تنشغل أكثر بتحديد موقعها الجديد في خرائط العالم المتغيرة، والسودان، بامتداده الجغرافي وعمقه التاريخي وموقعه بين تضاريس الأمن القومي الإقليمي والدولي، ليس استثناءً من ذلك.
تبدو الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023 ليست مجرد صراع داخلي على السلطة، وإنما لحظة فاصلة تدفع السودان ليقف عند حافة تحولات عميقة في تموضعه الجيوسياسي، لا سيما في ظل إعادة تشكيل الخريطة العالمية والإفريقية، وصعود أدوار قوى جديدة، وانهيار مراكز تقليدية.
سمكة إنها ليست فقط حربًا على الأرض، وإنما أيضًا على الخرائط، على النفوذ، وعلى من يُعيد ترتيب السواحل والمعابر والموانئ والثروات والفراغات الجيوسياسية، ولهذا، فإن السؤال لم يعد فقط: “كيف نوقف الحرب؟”، وإنما “أيّ سودان نُريد بعد الحرب؟ وأين سيكون موقعه؟”.
الخرائط تُرسم من جديد، فهل نحن فيها؟
تشهد إفريقيا لحظة سيولة غير مسبوقة في بنيتها الجيوسياسية، لم تعد الحدود التي رسمها الاستعمار مقدسة، ولا موازين القوى التي حسمتها الحرب الباردة ثابتة، فدول الساحل الإفريقي تعيد تعريف علاقاتها الدولية، والتموضعات في البحر الأحمر تُرسم على إيقاع مصالح الأمن الغذائي والطاقة والنقل البحري، كل هذا يحدث بينما السودان غارق في صراعات داخلية تُسهّل على الآخرين رسم مستقبله بدلاً عنه.
وفي هذا السياق، يتحوّل السودان من كونه دولة ذات سيادة إلى “موقع استراتيجي قابل لإعادة التوظيف”، وهذا التوظيف، في ظل الغياب الوطني والفراغ السياسي، يُصبح عابرًا للإرادة الشعبية، وأقرب إلى صفقات جيوسياسية تُبرم فوق الطاولة وتُنفّذ تحتها.
صراع الخرائط والموانئ، جيوسياسة البحر الأحمر
من يتتبع تحركات الدول الكبرى على سواحل البحر الأحمر سيدرك أن الصراع حول السودان ليس فقط صراعًا بين جيش ودعم سريع، وإنما أيضًا سباقٌ إقليمي ودولي على موانئ البلاد وشبكات عبورها نحو إفريقيا، فبين سواكن وبورتسودان، وبين البحر الأحمر والنيل، تتقاطع مشاريع الصين (طريق الحرير)، وأطماع روسيا (القاعدة البحرية)، وتحالفات أمريكا مع دول الخليج وإسرائيل.
هذا البحر الذي يبدو بعيدًا عن الخرطوم هو اليوم أقرب من أي وقت مضى لمركز القرار، لأنه لم يعد فقط مسرحًا للملاحة، وإنما “خط حياة جيوسياسي” تتحكم السيطرة عليه بمستقبل التجارة والأمن الإقليمي والدولي، وهنا، تبرز خطورة أن يتحول السودان إلى ممر دون سيادة، أو جسر دون إرادة.
ما بعد الحرب .. مسؤولية رسم الخريطة
إن الخطر الحقيقي ليس فقط في الحرب، وإنما في ما بعدها، فالسودان إذا لم يمتلك مشروعًا وطنيًا يعيد تعريف موقعه وفق مصالحه لا مصالح الآخرين، فستُرسم خريطته بالوكالة، والمفارقة أن القوى التي تصرّ على إطالة أمد الصراع، أو تعرقل الحلول الوطنية، هي نفسها من تُعدّ لمرحلة ما بعده، مرحلة القواعد، والاستثمارات الأمنية، ومناطق النفوذ.
اللحظة الآن لحظة تأسيس، وإذا لم يكن للسودان نخب تفكر استراتيجيًا، وتعيد بناء مؤسساتها برؤية سيادية لا انتقامية، فإن ما بعد الحرب سيكون تكرارًا للحرب نفسها، لكن بأدوات ناعمة، واتفاقيات طويلة الأجل.
الخرائط تصنعها العقول قبل الأقلام
في النهاية: ليست الخرائط حدودًا تُرسم على الورق فقط، وإنما رؤية تُبنى في الوعي، فالدولة التي لا تعرف من هي، ومن أين جاءت، وإلى أين تمضي، لا يمكن أن تُحدد موقعها وسط الأمم، والسودان، بتاريخه الطويل، لا ينقصه العمق، وإنما ينقصه المشروع.
فهل نملك شجاعة التفكير خارج مربع القبيلة والحزب والمؤسسة العسكرية؟ هل نعيد تعريف السودان من الداخل لا من الخارج؟ وهل نوقف الحرب لنبدأ المعركة الحقيقية، معركة البناء والسيادة؟
إن الوقت لم يفت بعد، لكن الخرائط لا تنتظر المترددين.
