اعلان ماس فيتالس

حين يفاجــئــنـــا الضوء، الذات في مرآة الصوت بأغنية (فأجاني النهار )

 

قراءة تــأمليــة في بعــض أعمال الراحـــل مجـــدي النـــور

بقلم: بـــــــدر الديــن جمــــــال الديــــن

الجزء الأول

نــبــذة مختـــصرة عن الشــاعـــر:

مجدي النور فنان سوداني ولد في مدينة بحري عام 1967وتوفي في حادث سير عام 2006، بدأ مسيرته الفنية دارساً في قصر الشباب والأطفال قسم الدراما وتتلمذ على ايدي أساتذة مهرة يصنعون الفن ويبنون الذات ثم درس الإخراج المسرحــي في معهـد الموسيقى والمسرح وتخــرج منه عــــام 1994، أسس جماعات مسرحية منها جماعة النــفيــر والمسرح التجــريبي وارتبط اسمــه بــمفهوم مسرح المهمــشين حــيث قدم أعمــالا ركــزت علــى قضــايا الهـــويــة والواقع الاجتماعي والثقافي للمهمشين في السودان.

عن عــقد الجــــلاد الغنــائـــية

فرقة عقد الجلاد ليست تجربة صوتية عابرة او لحنا يسمع وحسب بل هي مشروع حضاري نقيض للسكوت تعيد صياغة العلاقة بين الانسان وصوته بين الروح وألمها بين الفن الذي لا ينشد بل ينحت في عمق الوجدان، هم لا يغنون فقط بل يشيدون ذاكرة جديدة من حجارة القديم يبنون وطناً لا تحده الخرائط ولا الجغرافية بل تسكنه الأغنية ذلك الكائن الحي المتنفس.

فأجاني النهار:

فاجأني النهار عمل فني متوهج، غارق في العمق نسج فيه الراحل مجدي النور حروفه كمن يمارس طقس كشف داخلي تتداخل فيه الرؤية الصوفية مع نبض الثقافة السودانية في أنقى تجلياتها وهو نص لم يكن مجرد كتابة بل ممارسة إخراجية واعية استدعى فيها كل طاقات الخيال ليجعل من اللغة جسراً إلى معاناة الذات وهي تتقلب تحت وهجها الداخلي وتصطدم بتناقضات الواقع .

النهار كحدث وجودي :

فأجاني النهار وانا ماشي بيناتها…

هنا استخدم الراحل مجدي النور النهار ليس كزمن عابر بل وعي متفجر، كشف وجودي يقطع ليل النفس يفجر كل ما كان ظلمة باطنية، فاجأني النهار ليست شعاعاً خارجياً بل ولادة لمعنى جديد ينبثق من رحم التوتر والاضطراب الداخلي ذات المحبوب انه الانكشاف الذي وصفه هايدغر حين صار الوجود واضحاً ومرعباً، يقظة يصعد فيها الانسان من غيبوبته الى حقيقة ذاته.

“اتساقط باقي حنين”

الحنين في ذاكرة النص ليس مجرد استذكار بل جسد ينهار كأوراق خريف تسقط من شجرة الروح التي طالما ما تلاشت فيها ألوان الذاكرة. وهنا تظهر البراعة التصويرية للشاعر. الحنين في هذا الموضع ليس الى زمن مضى بل إلى جوهر الذات الضائعة الى صوت لم يكتمل نغمه إلى ألم لم يجد له مخرجاً سوى التساقط المستمر..

وفي الثقافة الغنائية السودانية نستحضر رائعة حمد الريح (جمبك ومشتهيك يا عيون ) التي الى درجة ما تشابه التساقط من شدة الوجد والحنين

لسه عيونك ياها عيونك

تكسر باب الدم السري

العيون في النص لا تعامل كأعضاء بل كنوافذ تطل على مملكة الأسرار (وهذا مفهوم صوفي عميق )… العيون كائنات رمزية تحمل الهوية رغم تحلل الزمن عيون تكسر باب الدم السري ذلك الحاجز (الحجاب)، الذي يجري منا مجري الدم و يحجب انفعالاتنا الاولى شغفنا وتولهنا لا بالعنف بل بالولادة كأنها تمزق الحجاب لتعيد تشكيل الداخل.. مرآة للوعي الذاتي كما رآها سارتر في نظرة الاخر.

المكان كجسد حسي

يا ناعس بين الخلوة وريحة الصندل

النيل قصاها ضفيرتو

وشراها رماد

برع الراحل المقيم في تصوير المكان في هذه التجربة لا كمجرد إطار بل جسد ينبض ويعانق بين الخلوة وريحة الصندل حيث تختلط العزلة بالذاكرة الحسية والنيل ليس مجرد مجرى ماء بل بل معادل حسي للأنوثة بقرينة (ضفيرتو) … والاحتراق رماد . إنه ملتقى يتحول الى وجود ملموس.. اختيار الشاعر للصندل ليس اعتباطا فوفق الثقافة السودانية والعربية عموماً رائحة الصندل غالباً ما ترتبط بالمساجد والخلوات و…… لذا فالصندل هنا يحضر كمعادل حسي للروحانية والتوحد.. والنعاس في النص لا يمثل كسلاً بل حالة وجدانية معلقة بين الحضور والغياب المقطع كله يتحرك بين الوجد الصوفي والاحتراق الجمال الذي نشتمه في الصندل يتحول في النهاية إلى رماد كأن الجمال لا ينجو من المصير

الزمن …………..

يسرى الحلم الموجوع

لا بطلع وقت اللقيا

لا بهجرني جواي ضلوع

الزمن في النص ليس فيزيائيا بل نفسي.. حلم موجوع.. وكلمة يسرى تعبر عن عاطفة عميقة فالسريان فعل بطيء حميمي يشبه الدم أو الحزن أو الماء في جذور النبات هذ الحلم الموجوع لا يخضع لطقوس اللقاء او فراق الاجساد هو زمن التوق والامتناع.. الحضور الدائم مع اللقاء المستحيل انه زمن الانسان الذي يعيش بين الفراغ والامتلاء يبحث عن معنى لا يدرك كاملا فالحلم لا يخضع لفيزياء الحضور ولا لمنطق الفقد وفق النص فهو مقيم دائم وهنا تظهر مفارقة الزمن الداخلي …..

ونواصل في الجزء الثاني..

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.