الترند والعظمة… من يسعى إلى الآخر؟

ربما شغلت مسألة الفن وعلاقته بالمجتمع الأدباء والمفكرين منذ عصور النهضة، فراح بعضهم إلى أن الفن طريقٌ لتهذيب النفوس، وراح البعض الآخر إلى أنه لا يعدو كونه وسيلةً من وسائل التسلية، وانجرف الإنتاج الفني وخاصة في سورية في مرحلة ما بعد الأزمة نحو الانحدار الإنتاجي على صعيد النص والإنتاج والإخراج والتمثيل، بذريعة: “الجمهور عايز كده”. إلا أن شخصية كالممثل السوري ياسر العظمة الذي رسم لنفسه خطاً خاصاً به شكل جزءاً من ذاكرة الشارع السوري حتى هذه اللحظة؛ كان له رأي مختلف، فقد انبرى قبل فترة ليبرئ الجمهور من هذه التهمة، وليوجه أصابع الاتهام إلى أماكنها الصحيحة، ويخبر أصحابها أنهم وحدهم من يحملون على عاتقهم وزر كلّ هذه المهزلة الفنية الحاضرة.

ماذا حدث؟

بعدما ظهر الفنان ياسر العظمة في برنامجه الخاص الذي يعرض على قناته على اليوتيوب بدأت موجة من الحميمية للوحات يقدمها، منها ما يتطرق لذكريات المسلسل المفضل للكثيرين “مرايا” ومنها ما يستذكر تفاصيل طفولته والجمهور يتابع بكل حب وشغف، إلى أن اتجه العظمة للنقد الفني لمسلسلات ذات ضجة وشعبية واسعة محلياً وعربياً كمسلسل “باب الحارة” ومسلسل “جوقة عزيزة”.

إجمالاً يمكن القول إن السوريين اعتادوا أسلوب العظمة الساخر أو الناقد بقسوة وموضوعية في آن واحد، وذلك لما كان يقدمه في لوحات “مرايا”، إلا أن هذه المرة لم تمر عفوية العظمة النقدية مرور الكرام كالمعتاد لكونه وصل إلى حد التسخيف والاستهزاء.

وقبل أن ننجر لمناقشة الأسلوب الفني الناقد لا بد من توجيه بقعة من الضوء نحو جدل الجماهير، فمنهم من قال ما هذا الأسلوب؟! لم نعتد هذا النوع من خطاب الكراهية عن لسان العظمة، فهل انساق العظمة حقاً خلف أهواء السوشيال ميديا والترند؟! ليكون الرد المقابل من شريحة جماهيرية أخرى رداً ساخراً من فكرة “العظمة والترند”. فبرأي هؤلاء أن الترند يحدث تلقائياً حينما يذكر اسم العظمة وليس هو من يبحث عنه.

مهما يكن فليس لأحد أن يقيّم شخصاً أو فكرة أو برنامجاً، لكن بكل مصداقية ما لفكرة الترند والغرابة؟ هل هذا عيب اجتماعي أو من المحرمات؟ لم يشهد المجتمع عموماً منذ فترة طويلة أشخاصاً أو منصة سوشيال ميديا أو محطة تلفزيونية يقدمون برنامجاً دون الاكتراث بعدّاد المشاهدات، وإن كان من يقدم هذا البرنامج شخص عظيم على رأي البعض “كالعظمة”، فأين المانع من أن يسعى إلى عدد مهول من المشاهدات وإثارة الجدل بين الرأي العام؟

ظهر ياسر العظمة على قناته على اليوتيوب واتجه للنقد الفني لمسلسلات ذات شعبية واسعة كمسلسل “باب الحارة” و”جوقة عزيزة”. إلاّ أنّ نقد العظمة وصل إلى حد الاستهزاء والتسخيف. لم نعتد هذا النوع من خطاب الكراهية على لسان العظمة، فهل انساق خلف أهواء السوشيال ميديا والترند؟

لو افترضنا جدلاً أن من قدم طرح هذه الفكرة النقدية هو شخص عادي ولم يشاهد برنامجه سوى عشرة من أصدقائه، فهل كانت ستحدث هذه الضجة؟ هل كان الإعلام سيهتم بالأمر ويطرح برامج وحلقات كاملة تبحث في إطار ما قاله العظمة؟ فإذا كانت قنوات الإعلام بحد ذاتها استغلت اسم العظمة واسم المسلسلات المذكورة لتجذب المشاهدين، فأين العيب والغرابة من أن يكون هدف ياسر العظمة الوصول العالي لأكبر شريحة جماهيرية ممكنة؟

من وجهة نظر فنية

يرى وسام كنعان، وهو صحافي وناقد فني سوري، أن ما حدث من بلبلة هوجاء هو نتيجة الحالة الطارئة التي دخل بها مفهوم “الترند” إلى الوطن العربي، فالغالبية تسعى للتريند حتى لو بمحتوى سخيف لا قيمة له ولا يمت للمعرفة والمعلومة بصلة، ما جعل هذه الكلمة تؤطر بإطار سلبي يقتصر على اللهاث وراء الجمهور بأقصى درجات الابتذال، لكن واقعياً فإنها حق مشروع لكل من يقدم محتوى يلامس الرأي العام الفني، أو الأدبي أو الإعلامي، فالجميع بصورة أو بأخرى يستهدفون الوصول إلى الترند والانتشار الكثيف والواسع.

استكمالاً للرأي الناقد الذي قدمه الصحافي وسام كنعان فإنه لا يمكن لأحد إنكار حق ياسر العظمة في السعي وراء الترند، علما أنه إذا كانت الدراما العربية قد حصلت على “ريت” عال من المشاهدة ذات مرة فليس لأحد إنكار “مرايا” على أنه واحد من الأسباب التي أوصلتها الى هذا الحد.

هذا النوع من السكيتشات التي تطرح قضايا مجتمعية بطريقة نقدية ساخرة تشكل بأم عينها واحدة من تريندات الدراما العربية، وياسر العظمة واحد من عرابيها ومرجعياتها إذا صح التعبير، خاصة أنه نذر نفسه على مدى سنوات طويلة سابقة لعمل واحد جعله اسماً لا ينسى وصفحة لا تُجتزأ من كتاب الدراما العربية الناجحة.

أين أخطأ العظمة؟

كما من حق الفنان أن يدلي بدلوه، من حق الصحافة الفنية الناقدة أن تُرجع الصدى، فما يقدمه ياسر العظمة ببرنامجه الذي ارتدى فيه عباءة الحكواتي هو ذاته ما كانت تستعرضه لوحات مرايا، لكن الفرق هذه المرة أن ياسر يظهر باسمه وبرأيه بشكل مباشر، ما لم يعتده الجمهور بظهور فنان نموذجي يخاطب بكل هذه الجرأة.

على رأي وسام كنعان ومن يتفق معه من متابعيه كناقد فني، أن ما يؤخذ على العظمة هو أنه لم يبدأ من نفسه، فكان حرياً به أن يبدأ بنقد السنونو الذي لم يحقق أي نجاح يذكر، أو بعض أجزاء مرايا التي انجرت وراء الأهواء التجارية، وهو اعترف بلسانه أنها كانت مقحمة على النص الفني وفجة إلى حد ما. فلو بدأ العظمة بنفسه ثم انتقل لنقد غيره حينها فقط كان سيقطع الطريق على الجميع ويبتر هذه البلبلة الهوجاء التي لا تعدو عن كونها ردة انفعالية صادرت حق أحد العرابين بأن ينتقد بعض المحطات المتهالكة، برأيه، على مستوى صناعة الدراما العربية.

يختم كنعان: “أنا مؤيد بشدة لما تقدم به العظمة مع التحفظ على نقطة معينة، ألا وهي أن من يريد التأثير بطريقة إيجابية والنقد بدافع التحسين فحريٌ به أن يرد على ما يراه بمادة ذات قيمة فنية عالية، أما من يريد التعبير عن رأيه فهذا أمر مستحق لصالحه، لكن عليه أن يبدأ بنفسه، وكما يقال “من ساواك بنفسه ما ظلمك”.

من أتى من البرية؟ ولمن الأولوية؟

هناك مثل شعبي في سوريا يقول “اللي غاب غيبتك… جاب هدية” هذا ما حدث فعلاً مع العظمة الذي تغيب طوال سنوات الحرب الماضية عن الساحة السورية بشكل تام، بات كل من يستذكره يقول: “إيه رزق الله على أيامك يا ياسر”، لكن هناك تساؤلاً طرحه البعض بعد الجدل الأخير، أيحق لشخص لم نره أو نسمع عنه خبر طوال السنوات الاثنتي عشرة الفائتة أن يقتحم خصوصية الساحة الفنية السورية المستجدة؟ أو يعتقد أننا ما زلنا على أطلال مراياه؟ ليجيب البعض: كلا، فالواقع أشار إلى غير ذلك، من المخرجات الطبيعية لأي حرب سواء على الصعيد الإنساني الاجتماعي أو الفني الذي هو محور هذا المقال ولو كان كل ما سبق على صلة وتواصل، أن يحدث بعد ذلك تغييراً جذرياً في بنية المجتمع وأفكاره التي يعتقد بها والتي رسختها أعمال ونفذها ممثلون سوريون ذوو أسماء وتاريخ عريق بالفن السوري، هؤلاء الممثلون الذين كانوا على تواتر بما يشعر به الجمهور وما يطلبه، على افتراض أن الجميع آمنوا بما ذكره ياسر العظمة عن مسلسل باب الحارة لافتاً إلى أنه تشويه للبيئة الشامية، وأن جوقة عزيزة ينطوي على نوع من السخافة بالطرح، فإن كانت هذه الأعمال بسخافتها ورداءة طرحها، على رأيه، ما زالت تجذب فئة كبيرة من الناس يثبت ذلك عداد المشاهدات على منصات التواصل الاجتماعي، فأين العبرة مما قدمه ياسر؟

لم يؤمن الكثيرون بأن هدف ذاك الطرح هو النهوض بالواقع الفني، فمن غاب غيبته على حد رأيهم، عليه أن يعود متودداً محباً مسالماً غير مستهتر بعمل فني شاركت فيه أسماء لا تقل عراقة عن عراقة تاريخه الفني، مع التحفظ على فكرة أنّ هذا لا يعني أنْ ليس له الحق بالنقد وإبداء رأيه أياً يكن.

نقطة في مرمى حنكة العظمة النقدية

قد ينظر البعض إلى ما يتم طرحه في هذه المادة على أنه تحيز، لكنه فعلياً ليس بمحط الذم ولا المدح ولا حتى التقييم، فلتلعب هذه المادة دور محامي الشيطان إلى أن يصل القارئ إلى صفوة من الأفكار الموضوعية بعيداً عن العواطف “لا مع ولا ضد”. فمن الناحية العلمية، على حد تعبير يوناني ألا وهو “الديالكتيك” الذي يعني الجدل والمناقشة والنقد وطرح الأفكار مهما تكن، يمكن الاعتبار أن العظمة خرق معايير الديالكتيك هذه المرة، فالجدل برأي الإجماع لا يعني الإهانة؛ والاختلاف بالأفكار لا يعطي الحق بالتجريح وإن قبلها الجمهور من ياسر قبل عشر سنوات وأكثر فهذا لا يضمن أنه سيتقبلها بنفس الروح المرحة اليوم، ربما هذا ما يفسر ما وصلت إليه الجماهير من اختلاف، لا بل احتدام بالآراء.

آراء وردود أفعال

بعدما ظهر منتج مسلسل “باب الحارة” وكاتب “جوقة عزيزة” في برنامج تلفزيوني للصحافي اللبناني السوري علي حسن ليردا على اتهامات العظمة بأنها موجة هجوم مفاجئة غير متوقعة وغير مبررة، وإن أرادا تبريرها فلن يكون ذلك إلا بسعي العظمة وراء الترند، كل ذلك أضرم نار الجدل السوشيال ميديا بشكل مضاعف، ما استفز البعض من أصحاب الآراء من صحافيين أو كُتاب أو حتى عموم الناس ليكتبوا على صفحاتهم الخاصة ما يعبر عن رأيهم في ظل هذه المعمعة الصفراء، فكتب الصحافي محمد علي دياب على صفحته على فيسبوك: “فنانون يتكسبون من (الشحادة) عبر تطبيقات التواصل وآخرون يرجمون لرأي فني هم أهل له بأنهم يسعون وراء (الترند). ليس دفاعاً عن ياسر العظمة، فرأيه يمثله ولكن حين تصير التفاهة سائدة يصبح كل صحيح خاطئًا. المسألة محسومة للتفاهة بدون معارك في كل شيء”.

بينما يقول الصحافي محمد سليمان: “الحديث هنا ليس عن الأستاذ ياسر بل عن السوريين بكل الأطراف الذين اعتادوا تخوين ومهاجمة أي شخص يقول رأياً لا يعجبهم، حرية التعبير بهذه البلاد أصبحت مهمة صعبة، فلا أحد يقبل الرأي الآخر، ولكن من المعيب أن نقول إن العظمة بحاجة إلى مشاهدات أو إنه يتبع الترند. مهاجمة القامات بهذه البلاد التي تعتبر جزءاً من ذاكرتنا أمر مزعج، أقطع جازماً لو ردت شركة إنتاج مصرية على عادل إمام في مصر بنفس طريقة رد الشركات السورية للإنتاج على العظمة “لقامت الدنيا وما قعدت”.

وكتبت الصحافية جلنار العلي: “لم تعد المشكلة بنوعية أي حديث يُطرَح من قبل أي شخص كان، وإنما المشكلة بجمهور المتابعين الذين باتوا يحتاجون إلى أي فرصة لينقسموا وليهاجموا بعضهم بعضاً، فبعد حرب اثني عشر عاماً ظهرت حلقة للفنان ياسر العظمة عرّت توجهات بعض السوريين وطريقة تفكيرهم، فلليوم يُطلَب منك إما أن تكون (مع) شخص ما بالمطلق أو (ضده) بالمطلق. ومن غير المقبول أن تنتقد جزئية معينة بشخص تحبه، ربما هنا بيت القصيد بأن السوريين باتوا إما غير متقبلين أية حقيقة تخالف قناعاتهم، أو “معظّمين” لمن يتحدث عن هذه الحقيقة.

توجه البعض للقول إن الفنان الكبير الذي عاش طيلة حياته بعيداً عن الإعلام يرغب بتحقيق “تريند” من خلال حلقاته المثيرة للجدل، وخاصة تلك التي تحدث فيها عن بعض مسلسلات البيئة الشامية و”اليوتيوبرز”. وأنا ضد هذا الكلام بالمطلق فمن حق ياسر العظمة باسمه الكبير أن ينتقد ما آلت إليه الدراما اليوم ولكن ربما أخطأ بالتعبير عن ذلك من خلال إطلاق أوصاف وعلامات تدل على بعض المسلسلات لتُعرَف دون ذكر اسمها. وهذا ما أساء لنوعية المحتوى الذي قدمه في هذه الحلقة رغم أنه صحيح في جزء كبير منه”.

هل فسر الماء بالماء؟!

بعد الموسم الرمضاني الفائت تعمدت الكثير من منصات التواصل الاجتماعي سؤال الشارع السوري عن رأيه في كل من الأعمال الفنية التي عُرضت خلال هذا الشهر، وكانت الغالبية تُجمع على فكرة مفادها أن باب الحارة أصبح عملاً مبالغاً فيه بعد سلسلة طويلة باتت تكرر نفسها، وأن جوقة عزيزة انطوى على نوع من قلة الإبداع الفني، ليأتي العظمة ويطرح مجدداً نفس الفكرة بذريعة التوعية.

يُقال غي قواعد الإعلام لا تشرح للجمهور ما يراه، فهذا نوع من الاستخفاف بقدرته على الاستيعاب، لكن ياسر كرر آراء الجمهور، وهذا التكرار لم يكن ليُحدث هذه البلبلة المجتمعية لو أنه اقتصر على حق النقد وإبداء الرأي لكن لطالما تجاوز حد ما ذكر إلى التسخيف، فهنا يمكن السؤال: هل كل الجماهير الفنية تصنف على أنها جماهير نوعية تطلب مستوى عالياً من العمق بالأفكار؟

أيحق لشخص لم نره أو نسمع عنه خبر طوال السنوات الاثنتي عشرة الفائتة أن يقتحم خصوصية الساحة الفنية السورية المستجدة؟ أو يعتقد أننا ما زلنا على أطلال “مراياه”؟

هل من العيب أن يكون هناك متابع بسيط لا يحب التعقيد والتلميح والشربكة، وهو جل ما ينتظره مقتصر على أفكار بسيطة واضحة ممزوجة بنوع من الفكاهة، وهذا يكفيه، فلو قيل إن الجميع هم نوعيون بالاختيار والانتقاء لكان ذلك كذبة من كذبات نيسان التي أتت في شباط، ولو أجمعت الإجابة على أن هناك فئتين من الجماهير نوعية وبسيطة، فهذا كافٍ لأن يبرر نوعاً ما من وجهة نظر كثيرين توجه بعض شركات الإنتاج إلى هكذا نوع من الأعمال الفنية، وإن كان لكل مقام مقال، فلكل جمهور ما أحب وما أراد وما إليه القلب مال.

فضّت ياعرب… اقصروها

بعيداً عن الفئة المؤيدة لما قاله العظمة، وبمعزل عمن انتقدوا أيضاً، هناك من تجردوا من الفضول الفني كغيرهم، ورأوا أن كل ما حدث ليس إلا معمعة سوشيال ميديا لا مبرر لها يجب بترها. لربّما أن الخطأ الذي حصل يقع على عاتق منصات أو قنوات شرعت منابرها لأناس متواضعي المعرفة والخبرة والمخزون الفني ليهاجموا قامة فنية كياسر العظمة الذي ليس لأحد أن يغبنه حقه في ذلك. إن المسألة ببساطة تحولت إلى تجارة على حساب أسماء وشركات كبيرة، فلمن أراد أن يبدي رأيه كل الحرية ولكن فليكن هذا التعبير بطريقة ناضجة بعيدة عن التشنجات الفنية وردود الفعل غير المحسوبة التي تخرج عن نطاق ما يريده الفن وأهله إجمالاً.