مقتلة الخرطوم والهروب المعاكس
بقلم- خالد فضل
كشفت حرب السودان الراهنة عن سوءات وخروقات فادحة في بنية التعايش بين المكونات الإنسانية في هذا البلد . يبدو أنّ هذا التساكن السطحي تغلّفه قشرة رقيقة لم تقو على الصمود لحظة الإختبار .وهو أمر بدهي في مجتمع لم ينمُ نموّا طبيعيا في تربة إنسانية وبيئة ديمقراطية حرة تتيح التعارف الخلّاق والتثاقف المبدع .وقد تمّ عرض مشاهد من سياريو ذلك التعايش الممكن على شاشة ساحة إعتصام القيادة في بحر العام 2019م , ولأنْ كانت هناك من مؤامرة واحدة حقيقية نفذت أجندتها في السودان منذ الإستقلال وحتى اليوم فإنّها _في تقديري_ كانت مؤامرة فض الإعتصام . والتي تمر ذكراها السادسة هذه الأيام , بوجع أكبر وألم يزيد ولا ينقص .
أشارت الأستاذة رشا عوض في كلمة لها منشورة قبل أيام إلى ملاحظة مهمة , وهي مشهد هروب آلاف المواطنيين من الخرطوم فرارا مع كل خطوة تتقدمها فصائل ومليشيات الجيش السوداني في مناطق العاصمة وأحيائها المختلفة , مثلما فرّ ملايين الناس قبل عامين مع كل تقدم أحرزته قوات الدعم السريع في نفس المناطق , وهي ملاحظة جديرة بالإنتباه حقا , بل والتحليل والإستقصاء العلمي , فأول الفرضيات أنّ الناس يخشون على حياتهم وأرواحهم من توغل الفصائل المسلحة إلى بيوتهم وشوارع حاراتهم , وهذه فطرة بشرية سوية , بيد أنّه من المهم كذلك ملاحظة أنّ هذا السلوك الطبعي لا ينطبق على كل أفراد المجتمع , في الواقع ما يبدو فرارا لطلب النجاة من جانب بعضهم , ينظر إليه من طرف آخر كمنقصة , جُبن , إذ ليس هناك ما يستوجب الفرار , هذا التقدير المتناقض مبني على نوعية القوة المسلحة المتقدمة , وهي قوات تم تصنيفها مسبقا بسمات جهوية وقبلية , قبل تقسيمها السياسي إلى نظامية شرعية ومليشياوية متمردة . الناس الذين فرّوا أمام زحف فصائل الدعم السريع نقلوا معهم وجهات نظرهم هذه إلى مناطق أهلهم في ولايات الوسط والشمال النيلي والبحري , فتم النظر إلى مساكنيهم من تلك القبائل والجهات بإعتبارهم طوابير , فهرعت أجهزة الأمن والإستخبارات النظامية في ولايات الوسط والشمال بشقيه إلى إتهام منتسبي تلك القبائل والجهات بالإنتماء أو التعاون مع المليشيا . وحوكم بعض الأفراد بموجب تلك التهمة وربما نفذت في بعضهم أحكام الإعدام أو السجن لفترات طويلة . بينما ظلّ الماكثون في مناطق سيطرة الدعم السريع ينظر إليهم بإشتباه , فهم إمّا من الحواضن الإجتماعية للدعم السريع وتحديدا من المجموعات العربية في دارفور وكردفان وعلى وجه التخصيص الرزيقات والمسيرية , أو هم من المجموعات الموسومة بالتفلت من العناصر الزنجية السودانية من قاطني الأحياء الطرفية في العاصمة , أو هم متعاونون إذا كانوا من إصول قبلية تنتمي إلى المجموعات العربية في الشمال والوسط . ليس في وسع التحليل المأزوم أن يضع فرضيات معقولة أخرى , مثل أنّ هناك من تقطعت به السبل , أوهناك من دبر أمر البقاء تحت كنف قوات الدعم السريع بالمداراة أو التعامل الماسخ بدون روح من أجل إتقاء الشرور , وهناك صبية وشباب استهوتهم المظاهر العسكرية لاقرانهم من مسلحي الدعم السريع فانضموا إليهم في لبس الزي والكدمول أحيانا وحمل الكلاشنكوف وعمل إرتكازات بمعيتهم لكنهم لم يخوضوا معهم في معارك ولم ينهبوا أو يسلبوا أحدا بل وفروا نوعا من الحماية لأهلهم فقط . كل هذه الدوافع والفئات من المواطنين يتم إجمالها بتقرير سطحي , يستبطن نوازع مختلفة بعضها ذاتي وشخصي , فوصف متعاون يمكن جعله إتهام عام لكل صاحب رأي أو موقف سياسي أخلاقي ضد الحرب أساسا . الحقيقة أنّ عناصر الدعم السريع أقلّ تركيزا في الهوية الفكرية والسياسية لضحاياهم , فقط الإشتباه بقلول أو استخبارات .وحتى هاتين الشبهتين لا يتم التقصي حولهما بدقة , في الغالب يتم أخذ المشتبهين إلى المعتقلات ويهملون .أمّا عناصر الإستخبارات والعمل الخاص وكتائب البراء فإنهم يركزون على الهوية والسحنة كمرحلة أولى , وعلى استنباط أي شارات إنتماء سياسي أو فكري لمن ينجو من مقصلة الإشتباه الجسدي , فمثلا ملصق لا للحرب دليل وتهمة بالإنتماء لقحت أو تقدّم , و وجود صور الشهداء أو أشعار من هتافات الثورة دليل إتهام بالإنتماء لثورة ديسمبر , وهذه تهم أشدّ من تهمة الإنتماء للدعم السريع مباشرة .
إنّ المواطنين والأسر والأطفال الذين هربوا من الخرطوم بعد عامين أتخذوا طريقهم مباشرة إلى جهات غرب السودان , وهذا يعني عمليا بلوغ عملية الفرز الإجتماعي لمداها , وما تبقى هو الرتوش الختامية لنهوض الفرز السياسي على ساقي حكومة وجيش في مواجهة حكومة وجيش .وبذلك يسدل الستار على فرضية السودان الموحد ؛ تلك المقولة اللزجة , إذ هي مضغة في الشفاه دون غوص عميق في الشعور , وهذه هي الحقيقة المريرة التي سيفيق عليها الناس عندما يتبادلون التشاكي .