مؤتمر لندن بين التحضير الدبلوماسي ومحاولات التشويش الإسلاموية

بقلم.. عروة الصادق

● في الخامس عشر من أبريل 2025م، تستضيف العاصمة البريطانية لندن مؤتمرًا دوليًا رفيع المستوى لوزراء خارجية مجموعة “أصدقاء السودان”، يهدف إلى معالجة الأزمة الإنسانية والسياسية التي تعصف بالسودان منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023م، ويأتي هذا الحدث في لحظة مفصلية، وسط آمال بتحقيق اختراق سياسي وإنساني حقيقي، إلا أن هذه الآمال تصطدم بجدار تعقيدات محلية يتصدرها التيار الإسلامي الإخواني الذي يتحرك بإصرار لتعطيل أي مسار دولي قد يؤدي إلى تهميشه أو إنهاء نفوذه، بعد موافقة الفريق أول عبد الفتاح البرهان على المؤتمر خلال زيارة الوفد البريطاني في مارس الماضي، يتصاعد الجدل حول قدرة القوى الدولية على إنجاح هذا المؤتمر في ظل واقع سياسي وأمني متشظي، هذا النص يقدم قراءة معمقة في السياقات التي تحيط بالمؤتمر، ويحلل البنية الخفية للصراع، ويفكك الديناميكيات التي تهدد مستقبله.

التحضيرات تنطلق من رؤية دبلوماسية منسقة تسعى إلى إعادة السودان إلى مسار الاستقرار، حيث ينعقد المؤتمر في لانكستر هاوس بهدف تسليط الضوء على المأساة الإنسانية التي أودت بحياة عشرات الآلاف وشردت الملايين، وجمع توافق دولي حول سبل دعم الشعب السوداني، ومناقشة ترتيبات سياسية تحفظ وحدة الأراضي وتضع أسسًا لحكم مدني، المشاركون ركزوا على أهمية التنسيق المسبق، واقترحت دول كمصر وألمانيا عقد اجتماع تحضيري لكبار المسؤولين لضمان حوار فعّال حول النتائج المرجوة، في حين أكدت فرنسا التزامها بدعم الوضع الإنساني مشيدة بنتائج مؤتمر باريس السابق، الذي أفضى إلى جمع أكثر من ملياري يورو، بينما أبدت ألمانيا حماسة لإعداد إعلان مبادئ يحدد الأولويات السياسية والإنسانية، وأشارت الولايات المتحدة إلى مراجعتها للسياسات المتبعة تجاه السودان، فيما عبّرت السعودية عن انتظارها للدعوات الرسمية التي أُعلن عن إصدارها في الأسبوع السابق للمؤتمر، هذه المواقف تعكس إجماعًا متناميًا على ضرورة تثبيت نهج يدمج الدعم الإنساني بالتأسيس السياسي.

مشاركة القوى المدنية السودانية كانت موضع نقاش حيوي، حيث أكد المبعوث البريطاني نيكولز أن المؤتمر سيشمل مشاورات مع ممثلين عن الشتات السوداني لإدراج رؤى المجتمع المدني، دون مشاركة مباشرة في أعمال المؤتمر، ما يعكس رغبة في حفظ الطابع السيادي للمؤتمر، وفتح الباب لحكومة منتخبة تكون الممثل الشرعي في المراحل القادمة، في الوقت نفسه، تم التأكيد على استبعاد أي تمثيل لقوات الدعم السريع، لما حولها من اتهامات بانتهاكات جسيمة، ويُنظر لها كطرف عسكري ساهم في تقويض مسار الانتقال الديمقراطي.

في مارس 2025م وخلال زيارة الوفد البريطاني بقيادة ريتشارد كراودر لبورتسودان، أعرب البرهان عن دعمه للمؤتمر، مشيرًا إلى أن تقدم الجيش في السيطرة على أجزاء من الخرطوم يفتح الباب أمام ترتيبات سياسية جديدة، هذا الموقف جاء بعد تفاهم مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان حول خفض التصعيد، وهو ما أوجد أجواءً من التفاؤل المؤقت، لكن هذه الأجواء لم تصمد طويلاً، حيث تحرك الإسلامويون، الذين يسيطرون على مفاصل داخل وزارة الخارجية ومؤسسات أمنية، لإفشال هذا المسار، معلنين رفضهم العلني للمؤتمر، بزعم أنه “تدخل خارجي”، وهو رفض لم ينبع من خلاف حول التفاصيل، بل من إدراك عميق بأن نجاح المؤتمر يعني نهاية احتكارهم لمفاتيح الدولة.

في الأيام التي سبقت المؤتمر، تصاعدت العمليات العسكرية في الخرطوم ودارفور وكردفان، وسط قصف جوي كثيف واشتباكات برية، على عكس التوقعات بتهدئة شاملة، هذا التصعيد، الذي رافقه خطاب شديد اللهجة من البرهان في ليلة العيد، لم يكن منعزلاً عن السياق السياسي، بل جاء نتيجة ضغوط من الإسلامويين الذين فرضوا خطابًا عدائيًا يرفض الحوار مع قوات الدعم السريع ويعيد إنتاج خطاب الحرب، وهو ما قرأه مراقبون كإشارة واضحة إلى نجاح التيار الإسلامي في اختطاف قرار الدولة وفرض أجندته العسكرية.

المعركة التي يخوضها الإسلامويين ليست مع الخارج بل مع الداخل، فهم يدركون أن المؤتمر لا يستهدفهم بشكل مباشر، لكنه يهدد وجودهم القائم على شبكة معقدة من التحالفات داخل الجيش والشرطة والمؤسسات، يحاولون فرض معادلة تقوم على أن لا استقرار إلا بوجودهم، ولا تفاهم دولي إلا بعبورهم، ولا دولة اسمها السودان ما لم يكونوا قادتها، وهو منطق يهدف إلى تعطيل المسار الديمقراطي واستدامة الصراع، وتحالف “صمود” بقيادة عبد الله حمدوك، الذي يلقى قبولًا دوليًا متزايدًا، يمثل في نظرهم خطرًا وجوديًا، لأنه يعيد تقديم القوى المدنية كفاعل شرعي في مستقبل السودان، وهو ما يسعون لمنعه بكل الوسائل، بدءًا من تفجير الوضع العسكري، ووصولًا إلى تفكيك المبادرات الدولية.

رغم هذه المعوقات، فإن المؤتمر يحمل فرصة نادرة لإنقاذ السودان من حالة التآكل المستمر، إذ يجمع بين دعم إنساني واسع وتفكير سياسي عميق، يشارك فيه اللاعبون الأساسيون إقليميًا ودوليًا، من مصر والسعودية إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وتبرز ألمانيا كداعم أساسي لمشاركة القوى المدنية، ولو بشكل غير مباشر تحت اسم (مراقب)، مما يؤكد أن هناك إرادة سياسية لإعادة السودان إلى طريق الانتقال المدني، لكن هذا المشهد لا يمكن أن يكتمل ما لم يتخذ البرهان موقفًا واضحًا من محاولات التشويش الإسلامية، وأن يعيد تأكيد التزامه بالمؤتمر كفرصة تاريخية، في المقابل، على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤوليته في التصدي لأي محاولات لتعطيل المؤتمر أو تشويهه من قبل أطراف لا ترى في السلام إلا تهديدًا لمصالحها.
● ختامًا: المرحلة القادمة تتطلب وضوحًا لا غموض فيه، فإما أن يكون المؤتمر نقطة بداية جديدة نحو سودان مدني يحكمه القانون ويخضع للمساءلة، أو يصبح ضحية أخرى في مسلسل التشويش والتفخيخ السياسي الذي يتقنه الإسلامويين، والكلمة الأخيرة لم تُكتب بعد، لكن التاريخ سيُسجل بوضوح من كان في صف الحياة ومن اختار الاصطفاف مع الموت والخراب.

orwaalsadig@gmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.