“سودان الغد”.. هل تُطهر الأرض من دماء الشهداء أم تُدفن معهم؟.

بقلم : عروة الصادق

في وطنٍ يئن وتُشق الأرضُ فيه بأنياب الحرب وتُروى بدماء الشهداء ودموع الثكالى، يتأرجح السودان اليوم بين صرخة العدالة التي تتعالى في السماء وصمت القهر الذي يُطبق على الأرض، بلادٌ تُعاني من نزيفٍ مُستدامٍ يُمزق أوصالها، وتُثقلها أزمات النزوح وتُذلها أغلال الفساد، وتُدنسها بشاعة وفظاعة الانتهاكات، لكن في أعماقها ينبض حلمٌ يرفض أن يُطمر تحت ركام الظلم، ليس السؤال “هل تستحق هذه الأرض العدالة؟”، بل هو وجعٌ يُمزق أضلعي كلما تذكرتُ تلك اللحظة في أكتوبر ٢٠٢١م، حين رأيتُ في شوارع الخرطوم شباباً يسقطون كالأشجار المقطوعة، وهاهو الأمر يتكرر في هذه الحرب العبوس قتلا وذبحا وتنكيلا، وأنا ابن هذه التربة المُقدسة بتضحيات أبنائها، أتساءل بقلبٍ يعتصره الألم “هل تُطهر العدالة هذه الأرض أم تُدفن مع أرواحهم؟”، إنه استحقاقٌ تاريخيٌ يُحدد مصيرنا، استحقاقٌ نُشيده نحن، أبناء هذا الوطن المُنهك المُثخن بالجراح المُتوقد بالأمل.

إن العدالة ليست مجرد كلمةٍ تُزين الخطابات، بل هي سيفٌ يقطع أوردة الفساد ويُطهر الوطن من أدران الظلم، إنها تلك القوة التي تُحاسب من أشعلوا الحروب الأهلية في دارفور وكردفان ونقلوها بمكرهم للخرطوم، ومن نهبوا ثروات الأرض بينما يتضور الشعب جوعاً في مخيمات النزوح، وإن غيابها هو الجرح العميق الذي يُفسد الفطرة السوية ويمزق النسيج الاجتماعي، يُحيل النيلَ من شريان حياةٍ إلى شاهدٍ صامتٍ على المجازر، ويُحول الثورةَ إلى أنقاضٍ تُدفن تحتها آمال الشباب، هذا الغياب ليس قدراً محتوماً، بل هو جريمةٌ تتجدد كل يومٍ بأيدي من يُفلتون من العقاب، لكننا لسنا شعباً يُسلّم رقابَه للجلادين، بل قوةٌ تُطالب بحقها في عدالةٍ لا تُؤجل، لأن من فضوا اعتصام القيادة هم من حاولوا غسل ذلك الدم بدم جديد فأشعلوا الحرب، وإذا أفلتوا مجددا سيغسلوا دم حرب إبريل بدم أشد وأفظع وليالٍ أحلك سوادًا.

وإذا كان غياب العدالة هو السم الذي يُسمم الأرض، فإحياؤها هو الدواء الذي يُعيد للشعب كرامته، إحياءٌ يبدأ بمحاسبةٍ لا تعرف الهوادة أو الكبير، تُعيد الحقوق للمتضررين الذين ذاقوا مرارة الحرب وذل جلاديها، وللنازحين الذين شُردوا من ديارهم، وتُعيد الأمل للأمهات الثكالى اللواتي يبحثن عن قبور أبنائهن، إنه مشروعٌ وطنيٌ يُكرس العدالة الانتقالية كأساسٍ للسلام، لا كزينةٍ تُرفع في المؤتمرات، إحياءٌ يُعيد صياغة العقد الاجتماعي ليكون ميثاقاً يُنهي الاقتتال ويُحطم أسوار القبلية، هذه العدالة ليست رفاهيةً نطلبها، بل ضرورةٌ وجوديةٌ تُحيي (الحرية – السلام – العدالة) كثالوثٍ مقدسٍ ينبض في عروقنا.

لكن هذا الإحياء يتطلب ثورةً لا تهدأ، ثورةً تُواجه الفساد الذي يُحيل الاقتصاد إلى أطلالٍ والحرب التي تُمزق الأرض إلى دويلاتٍ تتصارع على الفتات، نحتاج إلى إرادةٍ تُحطم أصنام الجهوية التي تُغذي الانقسام، وتُعيد الأرض لأهلها لا للطامعين فيها، نحتاج إلى نظامٍ ديمقراطيٍ يُعيد للشعب صوته المسلوب، لا يُكافئ القتلة بمناصبَ تُشرعن جرائمهم، هذه الثورة المستمرة تتطلب عقولاً تُحلل وأكفاً تُناضل، لا ألسنةً تُردد الوعود وأرجلاً تفر إلى المنافي.

والذين يُصرون على استمرار الحرب هم أنفسهم المتورطون في أوحال جرائمها، جرائم ضد الإنسانية تُدمي الضمير العالمي، وانتهاكاتٌ تستوجب الملاحقة الجنائية الدولية كسيفٍ مُسلطٍ على رقاب الجلادين، إنهم من يُعيدون استنساخ تجربة الحزب المحلول وعناصره وكتائبه الجهادوية، تلك التجربة التي زرعت بذور الفوضى وأشعلت نار الاقتتال، يُعيدونها اليوم بأقنعةٍ جديدةٍ ليُفلتوا من قبضة العدالة، يُشعلون الحرب ليُطفئوا صوت الشعب، لكن هذا الإصرار ليس قوةً تُرهبنا، بل دليلٌ على خوفهم من يوم الحساب، يومٍ تُطاردهم فيه أرواح الشهداء وتُزلزل أقدامهم صرخات الضحايا، هذا الخوف هو الضعف الذي يُمهد لسقوطهم، فما قامت سلطةٌ على دماءٍ تُطالب بانتقامها.

وخطورة مغبة تغييب ملف العدالة والعدالة الانتقالية عن أجندة الحل السياسي الشامل تكمن في أنها تُحيل أي مفاوضاتٍ إلى مسرحيةٍ هزليةٍ تُكرس الظلم وتُشرعن الجريمة، وإن إقصاء هذا الملف من طاولة الحوار هو خيانةٌ لدماء الشهداء وتضحيات الثوار، يُحول الحل إلى تسويةٍ هشةٍ تُعيد إنتاج الفوضى بدلاً من إنهائها، لا مساومةَ على قضايا العدالة، فهي ليست ورقةً تُباع وتُشترى في سوق السياسة، بل ركيزةٌ تُثبت أقدام الوطن أو تُسقطه في هاوية الانتقام، ولنرفض بقوةٍ كل من يُحاول منح المجرمين فرصةً للإفلات من العقاب، فإن فعلنا غير ذلك، فسنكون شركاءَ في جريمةٍ تُدفن فيها العدالة وتُشيع معها أحلام شعبٍ يستحق الحياة.

في خضم هذا الصراع، لا مكان للصمت أو التردد، فكل يومٍ يمر دون عدالةٍ هو انتصارٌ للظالمين وهزيمةٌ لأرواح الشهداء، نحن مدعوون لنكون أكثر من مجرد شعبٍ يُسجل آلامه في كتب التاريخ، بل صانعي مصيرٍ يُطهر هذه الأرض من دماء أبنائها، أن نُحاسب الجلادين بثورةٍ لا تُطفأ، ونُعيد بناء الوطن بإرادةٍ لا تُقهر، لنصنع عدالةً لا تُدفن مع الضحايا، بل تُحيي ذكراهم في كل زاويةٍ من زوايا السودان.

ختاماً: إن صوت العدالة في السودان ليس همهمةً تُسمع في الظلال، بل زلزالٌ يُهز أركان الظلم ويُوقظ النائمين، صوتٌ لا يتراجع ولا ينثني، يُجسد عزيمة شبابٍ يُقاتلون الظلام وثبات شيوخٍ يحملون راية الحق، أنتم، أيها القراء، وبالأخص أبناء جيلي (جيلي أنا)، أنتم أوتاد هذا الصوت، فلمَ لا نكون نحن من يُطهر هذه الأرض من أدران الفساد والحرب؟، لنجعل من كل لحظةٍ خطوةً صلبةً نحو تلك العدالة، فهي ليست أمنيةً نترجاها، بل حقٌ نُحققه، وإن تخلينا عنها، فسنظل أسرى ظلمٍ يُدفن معه الشهداء وتُدفن معهم أحلامنا في ترابٍ لا يُثمر، ولن يسمع صوت العدالة إلا بإسكات أصوات هذه البنادق الأيدولوجية، والاستعداد للمثول أمام منصاتها النزيهة.. كل منا يأتيها فرداً يحاسب على دِقه ودقيقه.

#نحو_الغد
مقال أسبوعي – 7 أبريل 2025م

orwaalsadig@gmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.