مَن يملك السودان؟: سلطةُ الدم أم إرادةُ الشعب؟
بقلم: عروة الصادق
في أرضٍ يُمزق النيلُ فيها صدرَه بين ضفافٍ تُعانق الدم وتُودع الأمل تحت أنقاض الحرب، يتخبط السودان اليوم في متاهةٍ تتصارع فيها أشباحُ السلطة وأطماعُ الغرباء، بلادٌ تُسحق تحت وطأة الاستبداد المُسلح وتُذبح على مذبح المصالح الدولية، لكنها في أحشائها تحتضن إرادةَ شعبٍ ترفض أن تُطوى في كفن الهزيمة.
ليس السؤال “متى ينتهي هذا النزيف؟”، بل هو صرخةٌ تتردد في أعماقنا كلما رأينا جثثَ الشباب تُزف إلى المقابر، بينما تتكالب الدبابات على عروشٍ هشة، وسط صمت دولي مريب وصفقات إقليمية لا تعترف إلا بمنطق القوة.
إني، ابن هذه التربة التي تُروى بدماء أحرارها، أتساءل بحرقة تُشعل العظم: من يملك السودان؟ هل هو شعبٌ يُقاوم ولم يهُن أو يُساوم، أم أسيادُ حربٍ يتاجرون بمصيره؟، إنه استحقاقٌ تاريخي يُحتم علينا أن ننتزع الجواب من أنياب الطغيان، انتزاعًا نُشيده نحن، أبناء هذا الوطن المُثقل بالأغلال، والمُتوقد بالعزيمة.
علينا جميعا أن نبدأ بتفكيك أوهام السلطة، لأن ما يُسمى “حكومة” اليوم ليس سوى قناعٍ تتوارى خلفه عصاباتُ السلاح وأمراءُ الحرب، سلطة لم تُولد من رحم الشعب، بل من رحم الانقلابات والخيانات، منذ انقلاب 1989م وما تلاه من انقلاب البرهان في 2021م، انحرفت المؤسسة العسكرية عن دورها الوطني وتحولت إلى مركز سياسي اقتصادي يُدير الدولة بمنطق السيطرة لا الشراكة.
إنها سلطة تُساوم على السيادة وتُرهن الأرض لأجنداتٍ خارجية، كما شهدنا في اتفاقيات غير متكافئة مع قوى إقليمية ودولية حول الموانئ والثروات، وتُدار بمنطق المدفع لا بإرادة الأمة، نرفض أن نكون رعايا لأنظمة تُشرعن وجودها بالدم والقمع ودموع الثكالى، ونرفض أن يُحكمنا من يُحول السودان إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية، هذا التفكيك هو الخطوة الأولى لاسترداد كرامةٍ سُلبت، فما قامت دولةٌ على أكاذيب الطغاة، بل على أكتاف شعبٍ يُدرك حقوقه.
ثم علينا أن نُواجه التدخل الأجنبي الخبيث، ذلك الشبح الذي يُحرك خيوط الدمى في مسرح الخراب السوداني، أي قوى خارجية تُشعل النار بأيدٍ محلية وتُغذيها بالسلاح والوعود، من الدعم اللوجستي والفني والتقني والعسكري لطرفي الحرب، إلى المحاور الإقليمية التي تُعيد تشكيل السودان حسب مصالحها لا حسب إرادة شعبه، إنه استعمارٌ مُقنع يُسلبنا السيادة ويُحول أرضنا إلى سوقٍ للمرتزقة وميدانٍ لصراعات الوكالة.
من يملك السودان حين تُصبح قراراته رهينة عواصم بعيدة؟، نُعلنها صرخة تُزلزل الأرض: لا لتبعية تُذلنا، ولا لأيادٍ تُلوث النيل بمؤامراتها، هذه المواجهة هي السياج الذي يحمي هويتنا، فما قامت أمةٌ على أعمدةٍ أجنبية، بل على أساس وطني لا يهتز، وإن أراد العالم شراكة فلتكن كسبية يربح فيها الجميع تتحقق فيها مصالح الشعب، وُتؤمن فيها مخاوفه، وتُردع وتُمنع بها مطامح الخارج.
وإننا لا نُطالب بحكم الشعب عن عبث أو فراغ، لأن السلطة الحقيقية لا تُختزل في براميل البارود ولا في موائد التفاوض المُزيفة، بل في إرادةِ أمةٍ تُعاني وتقاوم، نرنو لحكمـ مدني ديمقراطي يُعبر عن تنوع السودان من جبال النوبة إلى البحر الأحمر، ومن دارفور إلى القضارف، ومن جودة لوادي حلفا، حكمٌ لا يُفرّق بين قبيلةٍ وأخرى، ولا يُقصي إقليماً عن آخر، ولا يُمتهن فيه إنسان الوسط ويُهان إنسانه.
إنه استحقاق يُنهي احتكار العسكر للسلطة، ويُعيد الحق لأصحابه، فنحن لا نطلب الفتات من موائد الطغاة، بل نُطالب بوطن يُدار بأيدٍ نظيفة لا تُلوثها الدماء، هذا المطلب هو العمود الفقري لسودانٍ يتنفس الحرية، فما قامت سيادة على أكتاف الظلم، بل على إرادة شعبية لا تُقهر.
وعليه نكرر ونُحذر من الانهيار، لأن استمرار هذا الصراع ليس مجرد حرب بين فصائل، بل هو تفكك للنسيج الوطني وتفتت للكيان السياسي والاقتصادي، فبحسب تقارير الأمم المتحدة، هناك أكثر من 10 ملايين نازح، واقتصادٌ في حالة شلل كامل، وتوقف أكثر من 70% من الخدمات الصحية والتعليمية في مناطق النزاع، إن لم ننتزع السلطة من أيدي من يتاجرون بالدم، فسنُصبح أطلالاً تُروى عنها الحكايات.
نُحذر ونُنذر: لا مكان للصمت حين يُصبح الوطن حقلا لثالوث الأيديولوجيا الواهمة والسياسات الخاطئة ومضمارًا للحروب الأهلية، ورهينة للميليشيات والمتسلطين، هذا التحذير هو الصرخة التي تُوقظ الضمائر، فما بقي وطنٌ تحت أنقاض الفوضى، بل تحت رايةٍ ترفرف بالعدل الذي هو أساس الحكم، ولا عذر لم أنذر.
ختامًا: لسنا بحاجة لأصوات المدافع حتى تُصم الآذان، ولا لمُزايدات تُسوّقها أبواق الانتهازيين، نحن بحاجة إلى إجابة حاسمة على سؤال “من يملك السودان؟”، إجابة لا تتردد في وجه الباطل، تُدوي في سماء الثورة ولا تُخمد، تتدفق كالنيل في عروق الأرض ولا تجف.
أنتم، أيها القراء: وبالأخص أبناء جيلي، أنتم أصحاب هذه الإجابة، فما الذي يُثنينا عن أن نكون نحن من يُعيد تعريف مصير السودان؟ فلتكن الخطوة الأولى دعم القوى الرافضة للحرب وإستعادة دور المقاومة المدنية بكل الوسائل، تنظيمًا، توعية، ومشاركة، ولتكن كل كلمة موقف، وكل جرح درس، وكل صوت لبنة في جدار الغد، فالسلطة ليست ملكًا لمن يُشهر السلاح، بل لمن يُشيّد الوطن، وإن سكتنا، فسنُسلم أرضنا لأيدٍ تُحيلها إلى مقبرةٍ للأحلام والدموع.
#نحو_الغد