اعلان ماس فيتالس

الخروج من المنتصف المميت؟!

  • عين على الحرب

الجميل الفاضل

أستطيع أن أقول كما قال محمود درويش: “سقطت قلاع قبل هذا اليوم، لكن الهواء اليوم حامض”.

 

هو هواء حامض تسرب نهار أمس من قاعة مركز جومو كينياتا للمؤتمرات بنيروبي، إلى رئات غضة لن تحتمل هذه العاصفة المزدوجة بلا أدنى شك، عاصفة “الغابة والصحراء”، التي هبّت هذه المرة من أدغال كينيا، لتهز عروشًا كبيرة باتت تترنح، إذ إنها أضحت في الحقيقة بالية.

 

هي عاصفة ستطيح بأشجار نسب قديمة مؤسطرة، أكلت دابة الأرض اليوم منسأتها فخارت قواها، أو كادت أن تخر برمتها على الأرض جاثية.

 

وبدا لي عن كثب، كأن آخر الطلقات في آخر الحروب، الآن تُطلق.

 

إن شهوة دولة تنازع الروح، برع في إشباعها صناع “كبابها الجوي”، من لحوم البشر، في “مليط” و”الكومة”، وعلى امتداد مدار دموي من “كبكابية” إلى “نيالا”، هو مدار جوي انتقامي، يذهب بلا رحمة، وبلا هوادة، لخبز النائمين في منازلهم، من أطفال، ونساء، وشيوخ كبار، لا يُسمع سوى أناتهم المتقطعة لضعف الصوت من مصدره الأساسي، أطفال ونساء وشيوخ تزكم الأنوف في هذا الفضاء المر، روائح شواء أجسادهم الضامرة.

 

كل يقوم بمهامه الثأرية الانتقامية هنا كما ينبغي، فالطائرات تطير، والأشجار تهوي، والمباني تخبز السكان.

 

أتصور أن الوقوف في هذا “المنتصف المميت” قد بات حرامًا.

 

فقد قال شاعري المفضل محمود درويش:

“عندما لا تستطيع أن تقترب، ولا أن تبتعد، ولا تستطيع أن تنسى، ولا تستطيع أن تتجاوز، فأهلًا بك في المنتصف المميت”.

 

على أية حال، فإن الوقوف الآن في هذا المنتصف المميت القاتل، “جريمة”.

وأي جريمة هي! إنها ليست مجرد جريمة حرب، أو جريمة ضد الإنسانية، كالتي عوقب بأثرها من قبل، قائد سلاح الجو السوداني اللواء الطاهر محمد العوض الأمين.

 

إنها جريمة بحق أنفسنا نحن الواقفين إلى اللحظة، عند هذا المنتصف المميت، قبل هؤلاء الضحايا الذين أفضوا إلى ربهم مخبوزين تحت ركام المباني.

 

عموماً، فللفولاذ الجارح عندما يطير رعب لا يدركه إلا من عاش مثلي، وأنا ابن اثنتي عشرة سنة، تجربة قصف الطيران المصري لجزيرة أبا.

 

وبالطبع، فإن من يده في النار، ليس دائمًا كمن يده في الماء.

 

فتجربة قصف الطيران على الأعيان المدنية كلها، وعلى عين سكان المدائن ذاتها، تجربة مرعبة للغاية، هي تجربة أقرب للفنتازيا وأفلام الخيال، عشتها كما عاش مثلها محمود درويش أيضًا في بيروت.

 

أنظر كيف يصف محمود مثل هذه التجربة التي ظل يكررها اللواء الطاهر يوميًا في “نيالا”، حيث يقول درويش:

 

“الطائراتُ تعضُّني

وتعضُّ ما في القلب من عَسَلٍ

فنامي في طريق النحل،

نامي قبل أن أصحو قتيلا

الطائراتُ تطير

من غُرَفٍ مجاورةٍ إلى الحمَّام،

فاضطجعي على درجات هذا السُّلّم الحجريِّ،

انتبهي إذا اقتربتْ شظاياها

كثيراً منكِ وارتجفي قليلا

نامي قليلا.

الطائراتُ تطيرُ،

والأشجارُ تهوي،

والمباني تخبز السُكَّانَ،

فاختبئي بأُغنيتي الأخيرةِ،

أو بطلقتيَ الأخيرةِ،

يا ابنتي وتوسّديني

كنتُ فحماً أَم نخيلا

نامي قليلا

وتَفَقَّدي أزهارَ جسمكِ،

هل أُصيبتْ؟

واتركي كفِّي،

وكأسَيْ شاينا،

ودعي الغَسيلا

نامي قليلا”.

 

ويبقى في ظني، أن لكل حاكم مصري حصة مقررة من دمنا لا بد أن يأخذها قبل أن ينصرف.

 

المهم، فإن سؤالًا مهمًا لدرويش ربما يجيب على حال كل من ركب الصعب، أو ارتاد سكة الخطر، حيث يقول:

“هل في وسعكَ أن تكونَ طبيعياً في واقعٍ غيرَ طبيعي؟”

 

فما يحدث هنا هو بلا شك، انقلاب عميق أعاد تعريف الأشياء، وسماها بمسمياتها كما ينبغي أن تُفهم، بما يوجب أن يسحب الناس كلهم ظلالهم عن بلاط هذا الحاكِم العبثي.

 

لكن بكل تأكيد، فإن هذه المجموعة التي تصدت لمهمة عنوانها الأبرز هو إحداث تغيير أعمق وأشمل، تكون قد قبلت هي كذلك نوع أمانة ربما تشفق من حملها السماوات والأرض لو أنها عُرضت عليها.

 

مجموعة ستحاصرها أسئلة كبرى حول كيف يمكن لحكومتهم المرتقبة أن تحافظ على وحدة السودان، الذي اهترأ نسيجه؟

 

ومتى وكيف سيكون في استطاعتها فرض هذا السلام الذي تنشده رغم تعنت من يناصبونها العداء؟

 

ثم ما هي الأدوات التي تمتلكها على الأرض وفي الواقع لتحقيق مثل هذه الغايات النبيلة الكبرى؟

 

إذ كما يقال دائمًا، فإن جهنم محفوفة بالنوايا الطيبة.

 

بيد أنه يبقى أمل في أن ليس ثمة أقوى من إرادة الناس لو أنهم أجمعوا على شيء مهما كان يبدو بعيد المنال، فإعلان الاستقلال من داخل البرلمان في العام (1955) كان حدثًا رمزيًا يعبر عن قوة الإرادة الشعبية وعن قدرتها على صنع أحلام كانت تبدو مستحيلة.

 

فانتزاع استقلال السودان بإرادة سودانية خالصة، من التاجين المصري والبريطاني، جاء ترجمة صادقة لإرادة ورغبات السودانيين في التحرر من الاستعمار والاستقلال بالقرار الوطني آنذاك.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.